الثلاثاء ، 15 مارس 2016 ، الساعة 7:30 بتوقيت مكة المكرمة
الرئيسية / مقالات / “وجه الحرب” لسلفادور دالي و قبلة الوداع الأخيرة

“وجه الحرب” لسلفادور دالي و قبلة الوداع الأخيرة

The_Face_of_War
سيناء دباغ – كاتبة سورية 

ألهمتِ الأحلام و المنامات لوحات الفنان الإسبانيّ (سلفادور دالي) لتكون بصمته الواضحة في عالم الفن السّرياليّ الذي فكّ القيود عن هواجس و تناقضات العقل الباطن و عوالم الأحلام اللامنطقية, ليقدمها في رسومات و أشكال تخطّتْ حدود المألوف و الواقع الذي نعرفه في ساعات اليقظة. وتماماً كأحلامنا التي تقودنا عبر طرقٍ و ممراتٍ و جغرافيا لم نَخْبرها من قبل, و تكسّر اسيعابنا الروتنيّ لمفهوم الوقت و الزمان, لنقف في حيرة و شوق لتفسير المنام و تأويل محرضاته في العقل الباطن و أحياناً ربطه بنبوءات المستقبل, كذلك يقدم سلفادور دالي في لوحاته السّرياليّة الألغاز لتستفز الكثير من التساؤلات دون الرغبة في إيجاد أجوبةٍ شافية, و تكمن متعتها بتفسيراتها التي لاتنتهي و تهشيمها للمنطق المعتاد.

على الرغم من السّرياليّة التي صبغتْ رغبة دالي في تحليل الكون و استعمال النظرية الفرويديّة  لسبر مكنونات النفس و لواعجها, ظهرت لوحته الزيتيّة “وجه الحرب” تعبيراً مباشراً عن الألم و المعاناة و تقديماً صريحاً لحقيقة الحرب كواقع لا يحتاج للغوص في عالم فرويد و علم النفس. ويقدم دالي “وجه الحرب” عارياً عن كلّ الروتشات في شكل جمجمة لايزيّنها وجه ولا وجْنات و لا حتى عيون مذعورة. إنّها الحرب بكلّ قباحتها فلا شيء جميل في الحروب, و لاحتى نبل ادعاءاتها و سمو قضيتها! تقف لوحة “وجه الحرب” في متحف (بويمانس فان بينينكن) الأنيق في روتردام- هولندا. فنحتار لنعرف إذا ما كنا نحن من يحدّق في عينيّ الموت أم عيناه تشخصان بنا, فتتحول اللوحة لمرآة تعكس كلّ هواجسنا و رعبنا من زوّارالحرب المتمثلين بالموت و الجثث و الجماجم في أرض بنيّة اللون كئيبة, امتصتْ كلّ دلالات الحياة و لم تترك لساكنيها إلّا صحراء مهجورةً رمالها تتناثر كتراب القبور.

عيناه  مرتع الموت وفمها ينطق بصداه و شعرها ثعابين سامة عدائيّة كشعر (ميدوسة), ثعابين تمثّل طرفيّ الصراع الذي لا يسكب إلّا سماً زعافاً. فقط الثعابين ترمز للحركة في صورة شلّها الموت و سَكُنَتْ فيها الحياة, و في حركة الثعابين نذيرٌ بأنّ عجلة القتل وحدها لاتتوقف في حروب البشر.

رسم دالي لوحته في عام 1940 ليقدّمها كقولٍ مأثورٍ و حكمةٍ خالدةٍ  في سياق الضرورة الاجتماعية و السّياسيّة للمرحلة التي خطّتْها رسالة اليأس  و البؤس إزاء الحرب الأهليّة الإسبانيّة. و لأنّ مخلفات الحرب واحدةٌ مهما غيّرنا في جغرافيتها و تكنولوجياتها و زمانها,أصبح هذا الوجه رمزاً لكلّ حرب حيث يتقمص فيها الواقع أحداثاً  أغرب  من الخيال, و مناظر الوحشية تتجاوز المنطق ليقدم لنا “وجه الحرب” تناقضاً جليّاً لأكثر اللوحات السّرياليّة واقعيّةً في عالم يستحتضر كوابيس النهايات القاتمة الحزينة.

 وإذا ما كنا نسير في أروقة متحف (بويمانس فان بينينكن) فلا بد أن تسري رعشة الوجَل في عروقنا عندما نقف متمعنين بهذا الوجه الجامد الذي ينطق بالفناء, أو ربما نختار أنْ نحث الخطا هرباً من حقيقتها في محاولة طرد قباحتها عن سرقة أحلامنا! لكن ماذا عن الذين لا يحالفهم الحظ بالهرب بعيداً عنها, ماذا عن الذين يستقظون كلّ يوم على هذا الوجه المرعب و يستقبلون مساءهم بصورته. هل لازال هذا الوجه يرعبهم أم ألفوه كزائرٍ ثقيلٍ احتلّ ديارهم وجار شرس سكن أحياءهم, هل يهربون إلى ناصية الرصيف الأخرى أم يلقون التحية كلّ يوم  عند لقاء الحرب و جهاً لوجه, أم لا خيار لهم لا في هذا ولاذاك؟ هل سيطبعون قبلة الوداع الأخيرة على هذا الوجه, ومن سيكون في وداع الأخر؟

Print Friendly

اضف رد