السبت ، 16 أبريل 2016 ، الساعة 12:52 بتوقيت مكة المكرمة
الرئيسية / مقالات / رجال البازار يربحون.. دائماً

رجال البازار يربحون.. دائماً

349 (1)

أمجد ناصر – العربي الجديد
يصف إلياس كانيتي، صاحب “أصوات مراكش”، عملية المساومة في الأسواق القديمة (البازار) بأنها واحدة من عمليات الشدّ والجذب التي لا تعرف متى تنتهي ولا كيف. لا يمكن لك أن تعوّل على سعر معين، لأنَّ ليس هناك سعر معلن أصلاً. الأمر يتعلق بقدرتك على المساومة والتفاوض. وفي عملية كهذه، كلُّ ضروب الاحتيال مسموح بها، بل هي جزء من اللعبة. لا يعتري الضجر البائع الجالس وسط بضاعته، بحيث يستطيع أن يصل إلى طرف منها بمدّ يديه. جلسته تلك دفاعية، حمائية،  بقدر ما هي عملية. الوقت لا يهمه، أو هكذا يبدو لك. لأنه يعرف أن الوقت يجري لصالحه. كلما أطلت التفاوض، أو الأخذ والرد، كان ذلك في صالحه. وكلما اعتقدت أنك دنوت من “سرِّه”، نأى عنك أكثر. سيشعرك بأنك اقتربت. بأنك انتصرت عليه. لكنَّ انتصاراً كهذا يرمي إلى تدليك أناك ليس إلاَّ. هذا أقرب وصف، في نظري، لما جرى بين رجال البازار الإيرانيين والغرب في خصوص برنامج إيران النووي. هذه ليست استعارة، ولا تورية. قد تكون الحقيقة. يعرف من قرأ عن الثورة الإسلامية في إيران أنها لم تكن لتنتصر، لولا دعم البازار القوي، كما يعلم أنَّ البازار وجدها فرصته التاريخية، فقد كان الشاه يراه قلعة محافظة، تقف حجر عثرة في وجه طموحاته “الحداثية”. أبدى رجال الدين الحاكمون في إيران قدراً هائلاً من الدهاء السياسي. تصرفوا كأنهم في البازار الأقرب إلى تكوينهم الاجتماعي والثقافي. لا ضجر في التفاوض. لا ملل من المساومة. بضاعتهم عندهم، وهم يمدون خيوط الحديث والاتصال مع من يريدها. يعرف البائع أنه لا يستطيع الوجود في السوق من دون بضاعة. عليه أن يملك البضاعة، أولا، وأن يحميها بكل السبل الممكنة. هذا ما فعله المفاوضون الإيرانيون مع الغرب. التفاوض ثم التفاوض ثم التفاوض. أليس هذا ما شعر به الذين تابعوا المسلسل التفاوضي الأطول في تاريخ العلاقات السياسية بين الأمم. بمرونة وصلابة، بدهاء وذربة لسان، واصل المفاوضون الإيرانيون سباق التتابع. كل واحد منهم يسلم الراية إلى الآخر.. حتى وصلنا إلى ضحكات طريف التي كان يهديها إلى الصحافيين والفضوليين من شرفة مقر الوفد الإيراني المفاوض في فيينا. لكن، ليس بالدهاء والنفس الطويل انتصر الإيرانيون على الغرب كله مجتمعاً. كانوا يعرفون أن عليهم أن يرسوا حقائق صلبة على الأرض. أن يعملوا على مشروعهم من دون توقف. وأن يدعموه، في الوقت نفسه، بأكثر أوراق امتلكها نظام في الشرقين، الأوسط والأقصى. ليست هناك قوة في آسيا كلها لها التأثير في المصائر المباشرة للبلدان المحيطة بها، مثل إيران. ففي الوقت الذي كان فيه رجال الدين الإيرانيون يصنعون مشروعهم النووي، ويطورون ترسانتهم العسكرية التقليدية، تسللوا إلى النسيج الاجتماعي لمحيطهم وعششوا فيه. صدّروا “الثورة” من دون ضجيج. وعندما حان فرد الأوراق على الطاولة رموا أقوى الأوراق. لم يفاوض الإيرانيون ببرنامج نووي متقدم فقط، بل رموا بضعة عواصم عربية على الطاولة. أي دولة في المنطقة لها نفوذ إيران؟ من هي القوة التي تقرر في قضايا السلم والحرب في العراق وسورية ولبنان واليمن؟ ومن هي القوة القادرة على جعل الخليج على فوهة بركان مذهبي؟ إيران فقط. لا تركيا “السنية”، ولا السعودية ذات النفوذ المالي والديني الكبير، ولا إسرائيل عصا أميركا الغليظة في المنطقة. بقدرتها على التمدّد الهادئ، وبصرفها المال في بناء تحالفات وجماعات ذات ولاء قاطع، وببناء الذات أولاً، خرجت إيران الرابح الأكبر في عملية الشدّ والجذب البازارية. ولكنَّ ذلك ليس من دون رضا أميركا. ليس بلا علمها. أميركا التي تحكم العالم لا تترك إسرائيل، رأسمالها الكبير في المنطقة وطفلتها المدللة، لقمة سائغة لإيران لو كانت تشكُّ، مجرَّد شكٍّ، أن الأخيرة تريد أن تمحيها من الوجود.

المصدر:العربي الجديد

Print Friendly

اضف رد