عمر الشيخ
ما زلتُ أذكر اليوم عبارة أبو نادر، أحد ورّاقي دمشق: “لو كانت الكتب من ماء الذهب، فلن يقربها الناس هنا، لأنهم يخافون المعرفة”. كان الرجل يجيب على سؤالي حول جدوى ركام العناوين المفروشة على الرصيف الخلفي للمتحف الوطني وسط دمشق، في جولتي الأسبوعية على مكتبات منطقة الحلبوني، المعروفة بحقل القرطاسيات وبعض مكاتب ومطابع دور النشر الدمشقية.
كانت عشرات الكتب خلف واجهات المكتبات يعلوها الغبار، بينما يقف بعض الطلّاب يتصفّحون كتباً جامعية مستعمَلة على رصيفٍ محاذٍ، سألتُ أحدهم: “هل تقرأ أدباً؟”، فأجاب: “لا وقت ولا كهرباء ولا مال، بماذا تنفع الكتب؟”.
كُتُب البلاد لا تثير انتباهاً ما لم يسوّق أحد عمّال المطابع أن ثمّة سطوراً تمسّ عقائد الآخرين، تصل الوشاية إلى الجهة الرقابية، فيمُنع الكتاب، كما يحدث عادة في وزارة الثقافة، وهذه الأخيرة تتبع لها هيئة مستقلّة مالياً وإدارياً تُدعى “الهيئة العامة السورية للكتاب”، تحاول تبنّي المخطوطات.
وعلى عكس ما يُشاع من أن هذه الهيئة تعرف ترهّلاً إدارياً، يرى الشاعر والناقد بيان الصفدي، أحد قرّاء تقييم الكتب فيها، أنها محكومة بكونها مؤسّسة “وطنية رسمية”، ولا تغامر بتبنّي تجارب أدبية تتجاوز “الخطوط الحمراء”؛ ففي حين تتّسع الرحابة في الشعر أو ثقافة الطفل، فإنها تضيق في المسائل الفكرية والرواية والقصة. هنا يؤكّد الصفدي أن “الموانع ذات صلة بالموقف من الرأي العام، فهناك حساسية من التجاوزات في المجال الجنسي أو المذهبي تحديداً”.
لا يخفي الصفدي خوفه المتزايد من تجربة العمل لدى الهيئة: “أسوأ ما يحصل، هو ضياع المعايير وتدخّل الأمزجة الشخصية في القبول أو الرفض. تقلُّب الهيئة المتسارع بين عدّة مديرين عامّين، لكل منهم طريقة عمله وعلاقاته، أثّر سلباً على تنامي خطّة ثقافية ذات ملامح محدّدة”.
منذ ثلاثين عاماً، كانت منشورات وزارة الثقافة أكثر جرأةً وتنوّعاً وخصوصية من الآن، ويمكن لأيّ عابر لبسطات الكتب قرب كلية الحقوق والمتحف الوطني وتحت جسر الرئيس وسط دمشق، اكتشاف ذلك.
أمّا اليوم، فتراهن دور النشر الخاصة على الكتاب السوري من قلب الحدث، من خلال نصوص تتخطّى كل الحدود، تنتقد العقائد والسلطة ومسار الثورة، وتحاول تحريك الحياة بعيداً عن مشهد العنف الكبير.
“الكتاب هو الحامل الأساسي للفكر والتاريخ والحياة”، الحديث هنا لـ أيمن الغزالي صاحب دار “نينوى”، الذي يرى أن السوريين، بمختلف دوافعهم الذاتية والتجارية والحياتية والفكرية، يحاولون مواجهة تحدّيات المرحلة الآنية والمحافظة على الدور الإيجابي للكتاب.
يقول الغزالي: “النشر اليوم كمّي وليس نوعياً، وهذا محاولة في البقاء وليس الخروج، ما يسهم في تعويم الأزمات وطرح بدائل شكلية ومسطّحة وتغريبية”، ويضيف: “سرّ بقاء بعض دور النشر إلى الآن هو عناد مؤجّل، وقد ينقضي الأمر في أي وقت. تبدأ العملية بالرقابة وتنتهي بالتسويق. كل هذه المشاكل كفيلة بجعل العملية حرب مع كل شيء”.
هل ثمّة جدوى من الكتاب في وقت لا تصل فيه قيمة الإنسان إلى رصاصة؟ أصحاب دور نشر كثيرة هجروا سورية وتركوا خلفهم عشرات السنوات من العلاقات والعمل والكتّاب، بينما بقي بعضهم فقط لعدم قدرتهم على تحمّل تكاليف النقل والتنقل في ظلّ تدهور المنطقة برمتها، وكذلك بسبب “التعامل الرديء الذي يواجهه السوري من كل العالم”، حسب وصف الغزالي.
مطلع العام 2010، حصلت التشكيلية السورية رنا نقشبدي على ترخيص لدار نشر خاصة اسمها “نحن”، تشير تجربتها في النشر التي انطلقت منذ فترة وجيزة من باريس، إلى أن معاناتها دفعتها للعمل بعيداً عن تسلّط المؤسّسة الرسمية والأسماء المعروفة و”مافياتها”، ولكن التوقيت لم يخدمها: “دور النشر والكُتّاب منقسمون إلى مؤيّد ومعارض، وإلى صاحب فكرة وضدّها، وقد ارتبط النشر بهذا الخلاف”.
تقول نقشبندي إن كثيراً من الكُتّاب الشباب والمغمورين وجدوا في لجوئهم إلى أوروبا مجالاً مفتوحاً وجاهزاً وحرّاً لاستقبال أفكارهم وطروحاتهم، وذلك لسببن: “أولهما، الحرية بالكلمة ومعناها وأهدافها، الترويج لفكرهم ونضالهم من أجل الفكرة حيث العالم متوجّه نحو سورية، وثانيهما أن الكتّاب المعروفين والأكثر مبيعاً كانوا مسيطرين على ساحة النشر والكتابة، والمؤسّسة الرسمية لا ترحّب بالجديد والمختلف”.
لا تشاركية تُذكر بين العمل الثقافي الخاصّ والمؤسّسة الثقافية الرسمية في سورية، الحكم الرقابي والأخلاقي يفرّق بينهما؛ فدور النشر مثلاً “تتسوّل” دعماً حكومياً لمطبوعاتها من باب الاقتناء، وهذا ما حدث مع الناشر نايف قباعي الذي كان مسؤولاً عن “منشورات دار المتوسّط”، والذي يُشير إلى أن ضياع حقوق الكتّاب وضعف دعمهم المالي ساهم في توجّه كثير منهم للعمل مع دور نشر خارجية، على رأسهم كتّاب الرواية التي ترصد حكايات الحرب وتنقلها إلى العالم، تلك الكتابات كانت تُهرّب إلى الخارج هي وكُتّابها الذين لم يعد لهم مكان في بلادهم.
غير بعيد عن الرقابة الحكومية وسوق تسليع الكتب وتهميشها، ظهرت خلال الأحداث الحالية موجة من التهديد طاولت أحد الناشرين، رفض ذكر اسمه، بعد أن نشر سلسلة عن “الإلحاد” في مجلّدات ضخمة، اقتحم عليه أحد “المتشدّدين” مقرّ الدار وسط دمشق وهدّده بالحرق والتصفية لأنه “استغلّ الفوضى ونشر ما يسيء إلى الدين”، حسب ما نقل الناشر عن لسان مهدّده، مضيفاً أنه “مدعوم من الدولة”.
العربي الجديد