سلام السعدي – العرب
ثلاثة أيام فقط على البداية المتعثرة لمحادثات جنيف بين المعارضة السورية ونظام بشار الأسد كانت كافية لكي يعلن المبعوث الأممي الخاص بسوريا ستافان ديمستورا عن تعليقها. وإن كان التعليق السريع للمفاوضات يشير بوضوح إلى حجم التحديات والعقبات التي تنتظر جهود التوصل إلى تسوية في سوريا، لكنه يؤشر أيضا إلى صلابة في أداء المعارضة السورية من جهة، وإلى كون المحادثات تقوم على تفاهمات دولية أنتجت خطة محددة يسعى المبعوث الدولي إلى تنفيذها.
الملاحظة الأولى تتعلق بالأداء الصلب للمعارضة السورية والذي سرَع في تعليق المحادثات، وذلك بسبب إصرارها على تحسين الوضع الإنساني في مناطق المعارضة قبل بدء التفاوض. يشمل ذلك وقف القصف على مناطق المدنيين، ورفع حصار قوات الأسد لـ49 بلدة سورية. خيط رفيع يفصل بين كون طرح مثل تلك المطالب قبل بدء المفاوضات عبارة عن تمنيات غير واقعية لا تمت إلى عالم الحرب والسياسة بصلة، وبين كونها فهما شاملا وعميقا للعملية التفاوضية الحالية والظروف التي تحيط بها.
في معظم حالات التفاوض، ليس من الواقعي أن يطلب أحد الأطراف من خصمه تقديم أي تنازل قبل بدء المفاوضات. ذلك أن التنازل لا يكون إلا من أجل انتزاع مكاسب مقابلة وذلك في سياق العملية التفاوضية. وهو ما يدفع كلا الطرفين لتشديد القبضة على أوراقهما التفاوضية. في الحالة السورية، طالبت المعارضة بوقف القصف وحصار البلدات، وهي أسلحة ذات أهمية فائقة ضمن استراتيجية النظام السوري ما جعله ينظر إلى مطالبها بنوع من السخرية، حتى أن رئيس وفد النظام لم يتردد في وصف الوفد المعارض بأنه “لا يفهم بالسياسة”.
لطالما بنت المعارضة السورية سياساتها على المناشدات والعواطف وهذا لم يكن من السياسة في شيء. ولكن موقفها الأخير بني على أرضية سياسية صلبة وهي القرار الأممي 2254 والذي يدعو إلى وقف القصف ورفع الحصار قبل بدء التفاوض. مكاسب المعارضة كثيرة في إصرارها على اعتبار تحقيق تقدم في الملف الإنساني “غير قابل للتفاوض”.
أولا، التأكيد على قرار مجلس الأمن الذي وافقت عليه روسيا باعتباره “خطة الطريق”، كما وصفه ديمستورا، من أجل التوصل إلى تسوية في سوريا.
موقف المعارضة السورية الأخير بني على أرضية سياسية صلبة وهي القرار الأممي 2254 والذي يدعو إلى وقف القصف ورفع الحصار قبل بدء التفاوض
ثانيا، اختبار جدية المحادثات منذ البداية، وقبل أن يُدخلَ النظام السوري الجميع في متاهة تفاوضية لا يمكن الخروج منها. إذا كانت روسيا جادة بالسير بالعملية التفاوضية فيتوجب عليها إجبار حليفها السوري على تنفيذ قرار مجلس الأمن الذي وافقت عليه. حتى وإن كان التنفيذ على نحو جزئي بحيث يشمل رفع الحصار من دون وقف القصف الجوي باعتباره متعلقا بوقف إطلاق النار. إذا كان أحد أهم أسباب ذهاب المعارضة السورية إلى جنيف هو اختبار إرادة روسيا في التوصل إلى حل سياسي، فمن الأفضل حدوث ذلك الاختبار في الأيام الأولى وليس بعد مضي ستة أشهر من المفاوضات كما تنص خطة ديمستورا.
المكسب الأخير هو نجاح المعارضة في تعويم المطالب الإنسانية للسوريين باعتبارها مطالب ملحة وعاجلة كانت قد غابت عن اهتمام المجتمع الدولي خلال السنوات الماضية.
كما يؤشر تعليق المباحثات إلى أن محادثات جنيف 3 ينتظر أن تكون مختلفة عن محادثات جنيف2، وهو ما بدا واضحا على لسان المبعوث الدولي تعقيبا على قراره تعليق المباحثات، إذ قال إنه لن يضيع الوقت في “التفاوض من أجل التفاوض”، مشيرا إلى أن مهمته هي تنفيذ خطة محددة وواضحة هي قرار مجلس الأمن 2254.
كان ديمستورا واضحا بالإشارة إلى ضرورة “حدوث تغيرات على الأرض” يشعر بها الشعب السوري قبل أن تبدأ المحادثات، وهو بذلك يتفق على نحو قاطع مع موقف المعارضة السورية. الأرجح أنه لم يتبنّ موقف المعارضة بقدر ما كان يتبنى التفاهمات الدولية والإقليمية بهذا الشأن. لا تنقص روسيا الحيلة السياسية ولا القوة لكي تتغاضى عن مرور قرار في مجلس الأمن يطالب بتحسين الشروط الإنسانية قبل بدء المفاوضات. الواضح أن ذلك تم بوعي تام من الجانب الروسي كجزء من تفاهماته في مجموعة العمل الخاصة بسوريا. وهي خطوة مرتبطة بحقيقة وحيدة وهي رغبة دول المجموعة الدولية، أو بعضها، بإضفاء جدية أكبر على المحادثات ودفعها لكي تقلع في طريق وعر جدا.
لكن، وبالتزامن مع الأيام الثلاثة من المحادثات في جنيف، نفذت روسيا ما يقارب 900 غارة جوية لدعم قوات الأسد والميليشيات الطائفية المساندة لها في عملية ضخمة لحصار مدينة حلب، وهو ما يشير إلى وجود رغبتين تتنازعان روسيا حاليا.
أولا، هنالك إغراء وغرور الإنجاز العسكري في سوريا، وذلك بعد التقدم الكبير للنظام بقيادة ودعم روسي على جبهات الساحل وحلب.
وثانيا، هنالك رغبة واضحة في استغلال موافقة أميركا وأوروبا ودول عربية على أن تشرف روسيا على تسوية سياسية في سوريا تحفظ لها مصالحها مقابل قدر محدود من التنازلات. ويبدو أن جشع فلاديمير بوتين يدفعه، حتى الآن، إلى المضي في كلا المساريْن، دون تفضيل أحدهما على الآخر.
العرب