محمد قواص – الحياة
لم يتوقف وزير الخارجية السعودي عادل جبير، منذ أشهر، عن تكرار ما بات لازمة في الموقف السعودي من الشأن السوري: لا مستقبل للأسد في سورية المستقبل، والرياض مع أي حلّ ديبلوماسي يضمن رحيله، فإن لم يرحلْ بالحوار فالخيار العسكري جاهز لإجباره على ذلك.
ما بين الموقف السعودي والموقف الأميركي مشتركٌ لفظي قد لا يعبّر بالضرورة عن استراتيجية مشتركة. تمعن واشنطن في النأي بنفسها عن أي تدخل عسكري أميركي مباشر في الصراع السوري، على رغم الانخراط الكامل والمباشر الذي تمارسه روسيا في الميدان السوري. فيما تعتبر السعودية أن المعركة السورية جزءٌ لا يتجزأ من المعركة اليمنية في ردّها للتقدم الإيراني في المنطقة، وفي دفاعها عن أمن المملكة الإستراتيجي، بما يفسّر حيويتها في كل محاور الصراع السوري ومواكبتها لتطوراته.
في انسجام الأوبامية مع نفسها في الشأن السوري، تبدو الديبلوماسية الأميركية تعمل في خدمة الورشة الروسية في سورية. تراجعت واشنطن عن «جنيف» لمصلحة «فيينا» الذي انتج القرار الأممي 2254 المناسب لرؤى موسكو. تولّت الضغوط الأميركية سوق «معارضة الرياض» نحو المفاوضات، فيما تبرّع وزير الخارجية الأميركي، لمصلحة موسكو، بإنذار المعارضة وتهديدها ووعدها بأشهر صعبة إذا ما عاندت مسار المفاوضات في جنيف. لم تعاند الرياض «تواطؤ» الجباريْن، بل واكبته بحنكة وصبر وأناة، وهي مدركة أن لا نجاح للمفاوضات وأن لا طائل من تعطيل ما لا أمل في إنعاشه.
يخاطب الرئيس السوري العالم في مقابلته الأخيرة متأثراً بالإنجازات التي حققها نظامه براً تحت الغطاء الروسي جواً. لكن العارفين في شأن سورية يدركون أن منجزات النظام عرضية موقتة لا يمكن التأسيس عليها، طالما أنها معتمدة على تفوّق جوي سببه الأساسي غضّ طرف دولي وإقليمي يتيح له التفوّق. فالخبراء العسكريون مجمعون على التزام كافة دول المنطقة، حتى الآن، بالمحظورات الأميركية التي تمنع تزويد قوى المعارضة السورية بصواريخ مضادة للطائرات (لا سيما تلك من طراز ستينغر الشهير)، وأن احتمالات اختراق المحظور واردة في أية لحظة، بما قد يجرّد الغطاء الجوي الروسي من تفوّقه.
يبدو الإعلان السعودي التركي عن خطط التدخل البري تجاوزاً لرتابة في تشكيلة القوى الفاعلة في سورية وعلامة من علامات تجاوز المحظورات. يرسل البلدان ما يفيد بأنهما قد يصبحان بحلٍّ من التفاهمات الأميركية-الروسية، وأنهما بصدد تشييد تفاهمات إقليمية ستكون رقماً صعباً لا يمكن تجاوزه في ما يُرسم لسورية. تتصرف الرياض وأنقرة بمهنية عالية المستوى لا تحتمل تأويلاً ولا تشوهها انفعالية هواة. يأتي خطاب الدولتين متوائماً مع الجهد الدولي المعلن لمحاربة «داعش»، بحيث تكتمل الاستعدادات للتدخل البري، ويمهد لها بـ «رعد الشمال»، على أن لا تنتقل إلى حقبة الفعل إلا وفق خطط التحالف الدولي، أي بقيادة الولايات المتحدة. وبالانتقال مما هو تهويل نظري إلى ما هو سلوك عملي تنتقل طائرات سعودية (وخليحية) إلى قاعدة أنجرليك التركية، فيما تنهال نيران تركية على مواقع كردية شمال سورية، بما يشكّل انذاراً تركياً جدياً بالتحرك الميداني لمنع العبث بالخرائط على حدودها الجنوبية.
تنشر «الغارديان» البريطانية مقالاً يحذّر من خطر فلاديمير بوتين على الاتحاد الأوروبي. تعتبر الجريدة اللندنية التي تعبّر عن رأي نخب أوروبية، أن طوفان اللاجئين الذي تسببه الحملة الروسية في سورية هدفه إغراق البلدان الأوروبية بما يدفعها للتفكك ويجعل خروجها من أقسى الأزمات منذ الحرب العالمية الثانية أمراً عسيراً. قبل مقال «الغارديان» كان جون كيري قد عبّر عن قلق بلاده من أزمة المهاجرين كخطر شبه «وجودي» على أوروبا، بما يعكس توجساً حقيقياً من سياسات الكرملين وتداعياتها على العالم الغربي. في تلك البيئة تطلّ أعراض حرب باردة مع موسكو، على ما يجعل من تركيا حاجةً ملحة لا يمكن تجاهلها في قلب الحلف الأطلسي.
ضمن ذلك المنظور يأتي الكلام عن التدخل البري، ليس بصفته تمرداً إقليمياً على الزمن الروسي في المنطقة فقط، بل بما يوفّره من أوراق ضغط جديدة تملكها واشنطن وأوروبا في مقاربة موسكو، سواء لعبت، في الشكل، دوراً توفيقياً أو مباركاً لمسعى الرياض وأنقرة (أوباما دعم استعداد الرياض للتدخل البري ودعا الدول الأخرى لذلك).
اللافت أن موسكو (مدفيديف) التي تنذر باندلاع حرب عالمية ثالثة جراء الميول التدخلية الشائعة، تعتبر أن الأمر سيكون خطيراً في ما لو جرى من دون التنسيق معها. على أن الحراك السعودي لم يوح لحظة أن الاستعداد للتدخل البري يأتي معادياً لروسيا، لا بل استمر التواصل الديبلوماسي بين البلدين وأعلن الكرملين عن زيارة سيقوم بها الملك سلمان إلى موسكو منتصف الشهر المقبل. وشكّلت زيارة ملك البحرين حمد بن عيسى إلى موسكو، وما أدلى به من تصريحات هناك، ما يفصح عن توافق في رؤى روسيا والمحصلة الخليجية، أو امكانية التوصل إلى تفاهمات في شأن سورية. وقد يجوز اعتبار أن السيف «الدمشقي» الذي أهداه الملك البحريني لسيّد الكرملين مؤشر إلى احتمالات ذلك.
واللافت أيضاً أن مسألة التدخل البري على ما أعلنت الرياض باتت أمراً واقعاً في الحسابات الإيرانية. تفصح تهديدات طهران عن احتمالاته من جهة، وتفصح دعوة وزير الخارجية الإيراني في ميونيخ للتعاون مع «الأشقاء» في السعودية لحلّ المسألة السورية عن ميول لمجاراته. يبقى أن التدخل البري قد بدأ فعلاً منذ الإعلان عنه، بحيث بات عملة للصرف في سوق التبادل السياسي والديبلوماسي.