ربطتني بالبنوك الإسلامية منذ افتتاحها في سوريا في العام 2007، علاقة خاصة، بحكم عملي كمسؤول للقسم الاقتصادي في تلفزيون الدنيا الذي يملك “سليمان معروف”، حصة كبيرة فيه، بالإضافة إلى أنه كان من المساهمين الرئيسيين في بنك سوريا الدولي الإسلامي، النسخة السورية عن بنك قطر الإسلامي.
كان ملاك تلفزيون الدنيا، عند تأسيسه، سبعة رجال أعمال، خمسة منهم سوريون وهم، محمد حمشو، عماد غريواتي، سليمان معروف، أيمن جابر، نبيل طعمة، وعمر كركور، بحصة 55 بالمئة، أما السابع فكان لبناني وهو نجيب ميقاتي، ويملك حصة 45 بالمئة من التلفزيون.
وكان معروفاً عن هؤلاء الشركاء أنهم تجار ورجال أعمال وصناعيون، ولا علاقة لهم بالعمل الإعلامي لا من قريب ولا من بعيد، وكان على ما يبدو أن هناك اتفاق فيما بينهم على أن أحداً يجب أن لا يعترض على كيفية توظيف التلفزيون لخدمة مصالحه الاقتصادية والتجارية، مهما كانت الصيغة فجة ووقحة…!!
وقد أتيح لي خلال فترة عملي في التلفزيون التي استمرت من العام 2007 حتى نهاية العام 2010، أن أعمل مع جميع هؤلاء الشركاء باستثناء نجيب ميقاتي والذي تم إجباره على المساهمة في التلفزيون ولكنه طلب في ذلك الوقت عدم الإشارة لاسمه أبداً.
وكان معروفاً أن التلفزيون لم يعرض إعلاناً واحداً لشركة الخليوي التي يملكها ميقاتي في سوريا، “إم تي إن”، بينما كان كثيرون يعتقدون أن رامي مخلوف هو الذي يملك التلفزيون لكثرة الإعلانات التي يتم عرضها عن شركة “سيرياتيل”.
ومن هذا الباب دخلت عالم البنوك الإسلامية من أوسع أبوابه، ومع بداية انطلاقتها، حيث طلب مني سليمان معروف في العام 2009 أن أقدم له فكرة ودراسة عن برنامج يتحدث عن المصارف الإسلامية، من أجل عرضه في رمضان من ذلك العام.
وبالفعل تقدمت باقتراح لبرنامج يومي اسمه، “وأحل الله البيع”، الذي تم تنفيذه ضمن 15 حلقة، ثم في العام التالي قمت بإعداد 30 حلقة عن نفس الموضوع وبنفس الاسم وتم عرضه في رمضان كذلك.
لقد أكسبني العمل على هذا البرنامج خبرة كبيرة في آلية عمل المصارف الإسلامية، وكانت البرامج التي أعددتها، الوحيدة من نوعها على مستوى العمل التلفزيوني التي تقوم بتغطية الموضوع من شتى جوانبه، لذلك بعد تركي لتلفزيون الدنيا في نهاية العام 2010، تواصلت معي قناة فلسطين اليوم في لبنان، لإعداد برنامج مشابه، وهو ما تم بالفعل في نهاية العام 2011، ولكن تحت اسم “المال والهلال”، ومدته ثلاثون حلقة كذلك.
ظاهرة البنوك الإسلامية في سوريا
منذ افتتاحها في العام 2007، لاقت البنوك الإسلامية إقبالاً كبيراً من السوريين، والسبب أن المجتمع السوري بأغلبيته متدين، وقسم كبير منه يبحث عن الحلال والحرام في تعاملات المالية، وبالذات مع البنوك، لذلك كان الكثيرون يحجمون عن القروض “الربوية”، مهما ساءت بهم الأحوال، ليلجؤوا بدلاً من ذلك إلى طريقة شائعة، وهي الجمعيات، بين الزملاء في العمل أو الأقارب، وكانت فكرتها تقوم على أن يتفق مجموعة من الزملاء على دفع مبلغ شهري معين، ويتم منحه لأحدهم كل شهر يقضي به حاجته، وعلى هذا الأساس، كانت فكرة البنوك الإسلامية متوفرة ضمن التعاملات اليومية، ولم تكن مؤطرة ضمن مؤسسة.
لقد تنبه النظام السياسي في عهد بشار الأسد إلى طبيعة المجتمع السوري هذه، ووجد أن الاقتصاد يخسر الكثير من إيداعات السوريين، الذين يعنيهم كثيراً مسألة الحلال والحرام، وكان الكثير من الميسورين يرفضون إيداع أموالهم في البنوك التقليدية ويذهبون إلى الدول الأخرى التي فيها بنوك إسلامية، من أجل إيداع أموالهم، لذلك اتخذ في العام 2005، على ما أعتقد، قراراً يسمح للمؤسسات المصرفية الإسلامية بالعمل داخل سوريا.
كانت فكرة جلب المصارف الإسلامية إلى سوريا، غير مشجعة للكثير من المستثمرين العرب، بسبب ما عرف عن هذا البلد من جنوحه نحو رفض كل ما هو ديني وحتى محاربته، لذلك كان صعباً على المستثمرين السوريين في البداية إقناع المؤسسات المصرفية الإسلامية بالعمل داخل سوريا، وكانت في ذلك الوقت، دولة الإمارات والسعودية وقطر، قد خطت خطوات واسعة في العمل المصرفي الإسلامي، وكان لا بد من التواصل مع المؤسسات الموجودة في هذه الدول من أجل إقناعها بدخول السوق السورية.
البداية كانت مع بنك الشام الإسلامي، في العام 2006، وهو بنك تم استعارة هيكليته من تجربة البنوك الإسلامية الكويتية، غير أنه كان سورياً بامتياز، واعتمد على نخبة من رجال الأعمال الشوام، منهم عماد غريواتي، ومحمد الشاعر، وباسل الحموي، وسامر الدبس، الذين كانوا أول من بادر بالاستجابة لتأسيس مثل هذا النوع من المصارف.
لم تكن تجربة بنك الشام الإسلامي مشجعة في البداية، فهو كان أشبه بمؤسسة مغلقة، لم تحاول أن تقدم نفسها على أنها بديل عن المصارف التقليدية، ولم تحاول أن تلجأ للضجيج الإعلامي الذي افتعلته فيما بعد المصارف الإسلامية التي تم افتتاحها، واكتفى بنك الشام بخدمة الشركاء المؤسسين له فقط، مع بعض المنتجات المصرفية الخجولة.
كان بنك الشام الإسلامي مؤسسة دينية أكثر منه مؤسسة اقتصادية أو هكذا نظر إليه الناس من خلال تعيينهم للدكتور محمد سعيد رمضان البوطي كرئيس للهيئة الشرعية في البنك، والذي اعتذر فيما بعد عن الاستمرار في هذا المنصب بحجة عدم إطلاعه على شؤون العمل المصرفي الإسلامي، بينما نقل عنه أنه لم يكن مقتنعاً بهذا النوع من العمل المصرفي لناحية نزاهته وتوافقه مع أحكام الشريعة الإسلامية.
لقد ولد بنك الشام الإسلامي بلا منافسين، ومع ذلك استطاع أن ينال حصة من إيداعات السوق في ذلك الوقت قدرت بـ 10 بالمئة، لكن في منتصف العام 2008، بدأ أخطبوط مصرفي إسلامي آخر بالعمل في السوق السورية، وهو بنك سوريا الدولي الإسلامي، فيما كان بنك آخر أكثر شهرة يستعد للانطلاق وهو بنك البركة.
مع منتصف العام 2009، كانت تجربة البنوك الإسلامية في سوريا قد بدأت تتضح ملامحها أكثر فأكثر، لقد اكتسحت السوق بكل معنى الكلمة، ومن بين أكثر من 15 بنكاً جرى افتتاحها، حازت البنوك الإسلامية الثلاث على حصة أكثر من النصف من حجم المعاملات والإيداعات، واستطاعت أن تحقق أرباحاً ملفتة لمساهميها، في البورصة على وجه التحديد.
هذا النجاح الذي حققته البنوك الإسلامية دفع رجال الأعمال السوريين المسيحيين مثل عمر كركور وعصام أنبوبا، للمساهمة فيها في ظاهرة ملفتة وغير متوقعة، كذلك رجال الأعمال من الطوائف الإسلامية الأخرى، التي اتهمت التجربة في البداية على أنها تجربة سنية، لكن الأرباح التي حققتها هذه البنوك فتحت شهية جميع رجال الأعمال لأن يكون لهم حصة منها.
تقييم تجربة العمل المصرفي الإسلامي في سوريا
ذكرت في البداية أن تجربتي في العمل ببعض البرامج التلفزيونية التي تتحدث عن المصارف الإسلامية، سمح لي بالاطلاع على هذه التجربة من الداخل والخارج، إذ أن ضيوفي تنوعوا بين رجال دين واقتصاديين ومصرفيين، وعليه أستطيع أن ألخص آلية عمل هذه المصارف بالتالي:
يقوم العمل المصرفي الإسلامي على هيكلين متوزايين، الأول هو المصرفيون الذين يعملون في البنك، والثاني هو الهيئة الشرعية التي تنظر، حلالاً وحراماً، في طبيعة الخدمات التي ينوي المصرف الإسلامي تقديمها لعملائه، حيث تستطيع الهيئة الشرعية أن تلغي تعاملات للبنك، مهما كان فيها فائدة له، في حال أقرت أن هذه الصفقة لا تتوافق مع الشريعة الإسلامية وفيها شبهة حرام.
هذا ما تصرح به جميع البنوك الإسلامية، وحتى الهئيات الشرعية التي تعمل بها..!!
أما من حيث المنتجات، فمعروف أن صيغ التمويل الإسلامي كثيرة، تصل إلى العشرة، ومنها المرابحة والمشاركة والمضاربة والسلم والاستصناع والتورق والإجارة والبيع لأجل والمزارعة والمساقاة.. الخ،.. طبعاً، كل صيغة من هذه الصيغ فيها أنواع كثيرة ، وجميع هذه الصيغ تصب في فكرة واحدة بسيطة، أن البنك الإسلامي لا يعطي مالاً لعملائه وإنما سلع، بمعنى أنه لا يعطيك مالاً لتشتري منزلاً، وإنما يشتري البنك المنزل لنفسه بداية ثم يبيعه للزبون، بشرط أن لا يعلم الزبون السعر الذي اشترى فيه البنك المنزل.
ما قامت به المصارف الإسلامية في سوريا أنها تعاملت مع صيغة شبه وحيدة من صيغ التمويل الإسلامي، وهي المرابحة، كونها الأقل مخاطرة، مثل فكرة شراء المنزل أو السيارة للزبون، ولم تحاول أن تخوض في الصيغ الأخرى كون نسبة المخاطرة فيها أعلى، وكانت حجة هذه البنوك أنها لاتزال حديثة العهد ولم تبن نفسها بعد، وهو ما سمح لها بتحقيق أرباح خيالية.
أما من حيث مدى توافق هذه التعاملات مع أحكام الشريعة الإسلامية، وكرأي شخصي، فإن فكرة البنوك الإسلامية وكما بناها الشرع، تهدف بالدرجة الأولى لتنمية المجتمع، بما يفرض على هذه البنوك أن يكون لها مؤسسات أخرى واستثمارات تستطيع أن تشغل من خلالها العاطلين عن العمل من الشباب، بينما لم تفكر هذه المصارف بأي نوع من هذه النشاطات وأصبحت شأنها شأن البنوك التقليدية، تعمل على تجميع الإيداعات وتحقيق الربح لمساهميها.. بينما على صعيد تجارب مصارف إسلامية في دول أخرى، نجد أنها خطت خطوات كبيرة نحو الاستثمار في المجتمع، وليس إقامة الولائم الخيرية كما هو شأن المصارف الإسلامية العاملة في سوريا..!!
الملاحظة الأخرى، هو طبيعة المؤسسين والمساهمين لهذه البنوك من رجال أعمال سوريين وعرب، وحتى طبيعة المصرفيين الذين تم الاستعانة بهم للعمل في هذه المصارف بما فيهم المدراء، فهؤلاء جميعاً كانوا يتعاملون مع البنك الإسلامي على أنه مشروع اقتصادي مربح، فقط لا غير، ولم يكن يعنيهم من الجانب الإسلامي سوى الاسم وكدعاية قد تخدمهم في زيادة عدد العملاء، لهذا جميع هذه البنوك استعانت بأسماء رجال دين نجوم في المجتمع، مثل محمد سعيد رمضان البوطي في بنك الشام، وفيما بعد مفتي دمشق، وعبد الستار أبو غدة، في بنك سوريا الدولي الإسلامي وبنك البركة، حتى أعضاء الهيئة الشرعية جميعهم من رجال الدين المعروفين والذين لا يعلمون شيئاً عن العمل المصرفي، لا الإسلامي ولا التقليدي، باستثناء عبد الستار أبو غدة، الخبير في هذا المجال، لكنه بنفس الوقت كان رئيساً للهيئة الشرعية في أكثر من عشرين مؤسسة إسلامية حول العالم، ولم يكن متفرغاً للعمل في المصارف السورية.
جهل رجال الدين السوريين في العمل المصرف الإسلامي كان عاملاً مساعداً لهذه البنوك لتقليص معاملاتها إلى حدود التعاملات البسيطة كالمرابحة فقط.
وهي الحجة التي كان يبرر بها مدراء هذه البنوك اقتصار معاملاتهم على هذه الصيغة في التعامل.
المصارف الإسلامية والثورة السورية
عندما انطلقت الثورة السورية، كانت المصارف الإسلامية قد وصلت إلى مرحلة التخمة في الأرباح والنجاحات، لكن مع الأشهر الأولى للثورة تعرضت هذه البنوك لأكبر عملية سحب من الايداعات، تجاوزت ثلاث مليارات دولار خلال ستة أشهر، كان أكبرها في بنك سوريا الدولي الإسلامي بسبب انتمائه لـ “قطر” على الأغلب، حيث تجاوزت السحوبات في هذا البنك أكثر من 80 مليار ليرة بحسب تصريحات لعبد القادر الدويك مدير البنك.
لكن سرعان ما استطاعت هذه البنوك من السيطرة على الأوضاع من خلال تدخل المصرف المركزي الذي قام بمنحها جزءاً كبيراً من رأس المال المودع لديه، والبالغ 300 مليون دولار، وبحسب ميزانية كل بنك.
ومع تصاعد أحداث الثورة السورية ووصولها إلى حد التراشق الطائفي، توقع الكثيرون أن تكون المصارف الإسلامية أولى ضحايا هذا التراشق، غير أن شيئاً من هذا القبيل لم يحدث، بل كانت المفاجأة عندما أعلنت هذه المصارف عن حجم تعاملات خيالية خلال العام 2015، بالمقارنة مع سنوات الثورة الأربع السابقة، حيث بلغت وبحسب بيانات بورصة دمشق أكثر من 400 مليار ليرة، مع أرباح على الأسهم تجاوزت الضعف للبنوك الإسلامية الثلاث..!!
فكيف حدث ذلك..؟!، وما حقيقة هذا الأمر..؟
من وجهة نظري، أن جميع المصارف الإسلامية في سوريا، تنتمي لمؤسسات مالية عملاقة في بلدانها الأم وتمتلك موازنات ضخمة تعادل موازنات دول، وهو ما ساعدها على الصمود والاستمرار في سوريا.. فجميع تعاملات هذه البنوك السنوية قد تعادل صفقة واحدة لبنك مثل “البركة” المتواجد في أكثر من عشرين دولة حول العالم.
أيضاً هذا التواجد الخارجي القوي لهذه البنوك، أعطى السوريين عامل اطمئنان على أن أموالهم لن تذهب مع انهيار هذه البنوك وإنما يستطيعون الحصول عليها في بلدان أخرى، كل ذلك ساعد هذه البنوك على الاستمرار في عملها وتلقي الايداعات علماً أنها متوقفة منذ أكثر من أربع سنوات عن تقديم أي منتج للعملاء إلا في الحدود الدنيا ولحالات فردية.
اقتصاد مال وأعمال السوريين