الوضعية الجديدة التي وصلت اليها منطقة الحدود الشمالية، اسرائيل – لبنان- سورية، بعد عمليتي القنيطرة وشبعا، تعيد رسم الخريطة الامنية على طرفي الحدود. فقد باتت هناك قواعد لعب جديدة في المنطقة، حتى لو لم يرغب بها رئيس الحكومة الاسرائيلية، بنيامين نتانياهو، تجاه ايران و»حزب الله». وتلقف «حزب الله» هذه القواعد وسط غضب عارم على نتانياهو في المؤسسة الاسرائيلية نفسها. وهذا كله من دون ان تقول ايران كلمتها. فهي ايضاً تعرضت لضربة اسرائيلية، وقتل ضابط كبير لها في عملية القنيطرة. وسيكون لها رد وفقاً لقواعد لعب جديدة، والتقديرات في اسرائيل هي ان هذا الرد سيكون ضخماً بحجم عملية تفجير السفارة الاسرائيلية في الأرجنتين قبل ثلاثين عاماً.
والغضب في اسرائيل مبني على الشعور بأن عملية القنيطرة لم تكن سوى مغامرة أقدم عليها نتانياهو من اجل مصالحه الشخصية، الحزبية والانتخابية. وستخدم اسرائيل فقط لفترة قصيرة، ولكنها على الصعيدين الامني والاستراتيجي، ستفتح جبهة حرب جديدة في منطقة ظلت هادئة على مدار اثنين واربعين عاماً، في الجولان السوري المحتل.
نتانياهو يدرك، وقد أصغى جيداً كبقية الاسرائيليين لخطاب الامين العام لـ «حزب الله» حسن نصر الله، بأن الحزب غير معني بحرب مع اسرائيل وان الحرب مع لبنان، إنْ وقعت لن تكون بتلك السهولة التي يتحدث عنها بعض الاسرائيليين.
لكن تصريح نتانياهو العنجهي في مستهل جلسة حكومته الاسبوعية، بعد يومين من خطاب نصر الله، والذي هدد خلاله ان احداً لا يتمتع بحصانة امام حمم القصف الاسرائيلي لإحباط عمليات وهجمات ضد اسرائيل، انما هو اعلان عن اشعال هذه الجبهة. وخلال شهر ونصف الشهر، من الوقت المتبقى حتى الانتخابات البرلمانية، سيبقي نتانياهو فتيل الحرب مشتعلاً وسيكون على استعداد لاي تصعيد امني تجاه سورية، لخدمة مصالحه الشخصية وكرسي الرئاسة.
ويرى الاسرائيليون ان مغامرة نتانياهو بفتح جبهة في الجولان المحتل، تشكل خطورة كبيرة في الوضع الذي تعيشه المنطقة، حيث أدت الحرب السورية، وفق تقرير اسرائيلي، الى ظهور جبهات فرعية جديدة: «حزب الله» يرسل آلاف المقاتلين إلى سورية لمساعدة نظام الأسد على البقاء، وإسرائيل تعلن أنها ستعمل على منع مرور قوافل الأسلحة من سورية إلى «حزب الله» في لبنان، ومنظمات المعارضة السورية تسيطر باطراد على غالبية الحدود مع إسرائيل في مرتفعات الجولان، وبعضها يرتبط بعلاقات مع إسرائيل، في حين ترسخ إيران و«حزب الله» قاعدة لهما على الحافة الشمالية للحدود ذاتها، بهدف توفير قاعدة للعمل ضد إسرائيل في مرتفعات الجولان، وفق التقرير الاسرائيلي الذي يضيف انه نتيجة حالة الاضطراب توافرت لهذه الاطراف شبكة معقدة من المصالح، بعضها جديدة، تقود في بعض الأحيان إلى حرائق موقتة.
وفي استنتاج التقرير ان الهدوء المتواصل على مدار 40 سنة في مرتفعات الجولان منذ عام 1973، وسبع أو ثماني سنوات في لبنان بعد حرب 2006 – انتهى ويتوقع استمرار الضربات الدورية: ضربة ورد فعل، يليه رد آخر، وبعدها تجري اتصالات مكثفة من خلال التدخل الدولي في محاولة لتجنب الحرب، وهو ما تعتبره اسرائيل حرب استنزاف خطيرة، وهي حرب يصعب على الجيش الاسرائيلي التعامل معها.
استهداف لبنان
اعتبر عسكريون وخبراء ان اهم ما تضمنه خطاب نصر الله هو تحطيم شروط اللعب السابقة، بخاصة التعامل مع حدود لبنان وسورية مع إسرائيل كجبهة واحدة مشتركة في الصراع ضد اسرائيل. وركزوا على قول نصر الله: «من حقنا الشرعي في الرد على العدوان الاسرائيلي في كل مكان وزمان وبكل الطرق. انتهت لعبة انتم تهاجمون ونحن نرد». وحلل الاسرائيليون هذا الحديث بأن «حزب الله» يعلن انه يعتبر نفسه حراً الآن في العمل كما يشاء وفي كل قطاع يختاره، وهذا يشمل هضبة الجولان اما الرسالة الثانية من هذا الخطاب، وهي مرتبطة بالاولى، فهي ان جبهة سورية وايران و«حزب الله» موحدة.
اما قواعد اللعب الجديدة التي يريدها نتانياهو، وفي مقدمها وضع خطوط حمر، فعلى رغم ما تحمل في طياتها من أخطار وعلى رغم التحذيرات التي توجهها اكثر من جهة اسرائيلية، عسكرية وسياسية، الا ان نتانياهو يحظى بدعم حولها من جهات ليست قليلة، عسكرية وسياسية. فعندما يدعو غيورا ايلاند، الرئيس السابق لمجلس الامن القومي الاسرائيلي، الى ان الردع الاسرائيلي يجب ان يكون في ابلاغ رسالة واضحة للبنان بأن اي مواجهة مع اسرائيل تعني تدمير لبنان، كل لبنان، فهذا لا يعني تغيير قواعد اللعب فحسب، بل تصعيداً في حملة تهديدات قد تجلب المنطقة الى حال تصعيد خطير. اذ يرى ايلاند ان طابع عملية مزارع شبعا، لا يعود الى حقيقة ان «حزب الله» ليس معنياً بالتصعيد الكامل، فهو قادر على التصعيد من الناحية العسكرية حيث انه، بحسب ايلاند، يملك قدرات عسكرية مثيرة، لا سيما ان منظومة صواريخه التي تعتبر سلاحه الأساسي لم تتضرر على رغم خسائره الكبيرة في الحرب السورية، لا بل ازدادت قوته كثيراً مقارنة بحرب 2006، وبات يملك كمية اكبر من الصواريخ التي اتسع مداها وقدرتها على التدمير الهائل ومستوى دقتها. ولكن، يرى ايلاند، ان «حزب الله» لا يتمتع بشرعية كاملة في لبنان لمهاجمة اسرائيل، سواء من جهة سورية او لبنان.
في اسرائيل خرجت اصوات داعمة لموقف ايلاند. وهناك من وضع اللوم على متخذي قرار حرب لبنان الثانية بمحاربة «حزب الله» لوحده وليس حكومة لبنان وجيشه وحتى البنى التحتية، وهو خطأ اعتبره البعض استراتيجياً في اعقاب عملية شبعا. وهنا يرسم البعض سيناريوات حرب لبنان الثالثة في حال تم خوضها قريباً. ومن وجهة نظر ايلاند ستكون اشد قسوة من عام 2006، بحيث لا تستطيع اسرائيل الانتصار على «حزب الله» الا بثمن واضرار واصابات لا يمكن تحملها. ويضع ايلاند ثلاثة شروط لانتصار اسرائيل في هذه المعركة وهي:
ردع حقيقي
– اذا تواصل اطلاق النار من الأراضي اللبنانية على اسرائيل، فانه يجب اعلان الحرب على لبنان. وكلما كان التخوف من تدمير لبنان موثوقاً في شكل اكبر، سيحقق الامر ردعاً حقيقياً ويمنع المواجهة الشاملة. ولكن اذا وقعت المواجهة، فان التهديد بتدمير لبنان سيقود الى وقف النار خلال ثلاثة ايام، وليس 33 يوماً.
– الادعاء بأن الحكومة اللبنانية ليست مذنبة ولا تستطيــع فـــرض شيء عـــلى «حزب الله» غير صحيح، وليس ذا صـــلة. ويمكن لتهديد لبنان ان يحقق الردع الحقيقي، لأن «حزب الله» كتنظيم سياسي، يتخــــوف من التسبب بدمار لبلاده. قد يظهر من يدعي ان هذه الاستراتيجية ليست صــــحيحة، لأن العالم لن يسمح لنا بذلك، وهـــــذه المقولة، يضيف ايلاند، ضحلة كون دول العالم، وبالتأكيد الولايات المتحدة، ستسمح بعملية كهذه بتوفر شرطين: الاول، ان نقول لها ببساطة بأننا لا نملك القدرة على هزم «حزب الله»، واذا كانوا يعتقدون انه يمكن ذلك فليقولوا لنا كيف. ويكشف ايلاند انه خلال محادثات له مع عسكريين كبار وشخصيات سياسية رفيعة في الولايات المتحدة، يمكن تجنيد دعم كبير عندما يتم طرح الامور في شكل جدي ومهني.
– الشرط الثالث هو طرح التفسير المهني المسبق لكون هذه الطريقة هي المفضلة، وليس خلال الحرب. عملياً كانت لدينا ثماني سنوات ونصف السنة كي نفسر ذلك، ومن المؤسف جداً اننا حتى في الساعات الأخيرة نوجه التهديدات الى «حزب الله» بدل ان نوجهها الى العنوان الصحيح – حكومة لبنان»، يقول ايلاند مهدداً الدولة اللبنانية.
خطاب نصرالله
الاعلان المسبق عن موعد خطاب نصر الله، جعل العديد من المسؤولين الاسرائيليين يصغون اليه، وليس فقط في القيادات من عسكريين وسياسيين بل السكان العاديين، بخاصة سكان الشمال. فهؤلاء اعلنوا لوسائل الاعلام الاسرائيلية، قبل موعد الخطاب، بأن على اسرائيل ان تصغي لكل كلمة يقولها نصر الله لانه لا يمكن الا ان ينفذ ما يقول. وهذا الحديث جاء في مقابل الانتقادات التي تعرض لها نتانياهو، ازاء حملة التهديدات واقناع الاسرائيليين بأنه الوحيد القادر على ضمان امنهم. فأول استنتاج خرج به الخبير العسكري، ناحوم برنياع، والمعروف باطلاعه الواسع على طبيعة النقاشات الداخلية في المؤسستين السياسية والعسكرية، ان نتانياهو يقول الشيء، ويهدد ويزبد، لكنه في الممارسة، على أرض الواقع، يفعل نقيضه. وكل ما ذكره نتانياهو عن ردع لا وجود له وفي افضل الاوضاع يوجد ردع متبادل. فنتانياهو هدد بعد عملية القنيطرة» من يقف وراء أي هجوم على اسرائيل سيدفع الثمن كاملاً». ولكن بعد تنفيذ عملية مزارع شبعا جاءت تصريحاته بقبول التهدئة واحتواء الحدث، وأن «كل من شارك في المداولات في مكتب رئيس الحكومة اعتبر أن وراء تهديد نتانياهو تختفي كلمات جوفاء».
وازاء هذه الوضعية طرحت في اسرائيل اسئلة عدة:
– كيف يمكن فهم الرسالة التي بعثت بها اسرائيل الى «حزب الله»، عبر القوات الدولية، بأنها تريد التهدئة في مقابل الرسالة التي اطلقها نتانياهو امام الاسرائيليين بان اسرائيل ستنفذ كل ما تستطيع من عمليات لمنع اي سيطرة لـ «حزب الله» وايران على المنطقة الحدودية على طول خط وقف إطلاق النار في مرتفعات الجولان، من مزارع شبعا وحتى القنيطرة؟
– وسؤال آخر طرحه برنياع هو «ليس واضحاً كيف تحول وجود «حزب الله» في شمال الجولان إلى مسألة وجودية. فهل تفضل إسرائيل أن تجلس في مرتفعات الجولان مقابل قوات «داعش» أو جبهة النصرة؟ إذ إننا نقف اليوم مقابل تنظيمات كهذه، من القنيطرة جنوباً، ولم أسمع أن إسرائيل فتحت حرباً ضدهما، يقول برنياع ويضيف سؤالاً آخر: لماذا نحن قادرون على العيش مقابل «حزب الله» في حنيتا والمطلة ومسكاف عام ودوفيف وكريات شمونه وشلومي (بلدات في منطقة اصبع الجليل والجليل الأعلى)، ولا يمكننا العيش مقابله في (مستوطنة) ماروم جولان في الجولان».
– لماذا تمت تصفية الجنرال الإيراني؟ لماذا صُفّي بعملية تكاد تكون علنية؟ من الذي قرر تنفيذ هذه الغارة، ومن أراد أن يردع ومن أخاف باستثناء مئات آلاف المواطنين الإسرائيليين الذين يسكنون بالقرب من الحدود الشمالية؟
ويخلص برنياع في هذا السياق إلى التحذير من أن «كل من يعتقد أن إطلاق النار في الشمال أرضى غريزة الانتقام لدى الإيرانيين، هو واهم. فالحذاء الأول سقط (بمعنى ألقي) مع تنفيذ عملية مزارع شبعا. ولم يتبق للاسرائيليين سوى انتظار الحذاء الثاني».
وبرنياع هو مجرد نموذج، ففي جميع الصحف الاسرائيلية نشرت مقالات مشابهة توجه أسئلة صعبة لنتانياهو وتستنتج بأنه ليس ذلك الرجل القوي، بل بالعكس. وان لا هم عنده سوى العودة الى دورة أخرى لرئاسة الحكومة في الانتخابات القريبة المقبلة.
رابط الخبر: