روسيا تريد حلاً سياسياً في سورية، لكن على طريقتها. حل لا ينسجم في شكل مطلق مع رغبات عدد من المسؤولين السوريين. ولا يرى «الائتلاف الوطني السوري» المعارض فيه مكاناً قيادياً كما كانت الحالة في مفاوضات «جنيف-٢». حل لم تطلق إيران محركاته ولم تزِل تركيا العصيّ من عجلاته. لا يحظى بموافقة مسبقة من واشنطن، لكن إدارة الرئيس باراك أوباما لن تقف حجر عثرة أمامه طالما ليس لديها رؤية بديلة وتركز على «داعش أولاً» و «العراق أولاً».
لذلك، تسير الديبلوماسية الروسية بحذر وتتلمس خطواتها بين ألغام. ان تجر النظام الى ساحة السياسة وأن تجمع أوراقاً رئيسية في الملف الذي اصبح غير سوري ولا يقرر السوريون فيه مآلاتهم النهائية، لتكون مفاوضاً رئيسياً عندما يحين موسم قطف الصفقة الدولية – الإقليمية ضمن مقايضات لها علاقة بمستقبل الشرق الأوسط الجديد و «قواعد الاشتباك» الجديدة، مع وصل بالأزمة الدولية في أوكرانيا ومعاناة الكرملين من العقوبات الدولية وانخفاض أسعار النفط.
عندما اقترحت موسكو استضافة حوار سوري، لم يكن النظام متحمساً. أصحاب الرؤوس الحامية كانوا ولا يزالون لا يرون سوى الحل العسكري تقابله رؤوس حامية في المعارضة بالقتال للانتصار الحاسم. كان بعضهم يرى الفرصة متاحة لـ «استمرار التقدم الميداني» طالما ان التحالف الدولي – العربي يركز ضرباته فقط على تنظيم «الدولة الإسلامية» (داعش) ويحد من تمدده. النظام يريد الأولوية لـ «القضاء على الإرهاب» محلياً وتطبيق القرارين ٢١٧٠ و٢١٧٨ وتجفيف منابع دعم الفصائل المسلحة ووضعها في سلة «داعش» و «جبهة النصرة» و «حركة أحرار الشام». اذاً المطلوب من روسيا لدى هؤلاء، توفير الغطاء الدولي للمضي قدماً في قتال «التكفيريين» وترك باب مجلس الأمن في يد الكرملين. بل ان بعض المسؤولين السوريين، ارتاح لأن مقاتلات التحالف تضرب «داعش» بعيداً من مواقع النظام. افتراضياً، يرى هؤلاء ان النظام وأميركا في خندق واحد ضد «التكفيريين». وأن الوقت آت للانخراط المشترك. وبالنسبة الى النظام، كل المعارضة «تكفيرية»… الى حين.
لم يكن هناك أي داع للعودة الى المجال السياسي. هناك تبادل مصالح بين روسيا والنظام. كل منهما يعتمد على الآخر ويعزز موقف الآخر. النظام السوري لم يخيب الرئيس فلاديمير بوتين وينهار في أيام كما حصل مع النظام الأوكراني. كان المطلوب من روسيا أيضاً، المزيد من الذخيرة العسكرية والأسلحة المتطورة لاستمرار المعركة التي تحسن موقع بوتين عالمياً. ولا بأس ببعض القروض الميسرة. بليون دولار أميركي مثلاً. لم يكن الجواب الروسي كما اشتهى بعض المسؤولين السوريين خلال زياراتهم العلنية والسرية الى موسكو. تماماً، كما كانت الحال مع الصفقة الكيماوية. عاند بعض المسؤولين التخلي عن الترسانة الكيماوية في نهاية ٢٠١٣. تبلغ النظام بالأقنية الرسمية والأقنية الشخصية: يجب التخلي عن هذا الملف. أعطي رئيس الوفد السوري هاتفاً وغرفة في موسكو. وقُيل له انه لابد من جواب خلال فترة قصيرة. وعندما تحدث الروسي اللغة الروسية، قُضي الأمر.
الآن، عندما تحدث الروسي لغته، استجابت دمشق لاقتراح عقد حوار مع المعارضين في موسكو. قدم النظام موافقته باعتبارها «استجابة للحاجة الروسية» ومن منطلق «الثقة بالحليف الروسي». حاول الدخول في التفاوض على أسماء محاوريه، كان الجواب الروسي أنه يعرف ما يحصل في سورية ولن يدعو أطرافاً غير مقبولة من دمشق. قلق بعض المسؤولين، ان الروسي، الذي يرتبط بعلاقات قديمة بالجيش والأمن، فتح أقنية غير معلنة مع شخصيات فاعلة في النظام بحثاً عن الحل.
لكن الأهم، ان الروسي فتح نقاشاً صريحاً مع الإيراني و «حزب الله». أظهر النقاش، ان هناك تمسكاً روسياً بـ «المؤسسات السورية» و «وحدة الأراضي السورية» وقلقاً من ان التحرك على الأرض يسير عكس هذا الاتجاه سواء بطبيعة الدعم الحاصل للميلشيا المؤيدة للنظام أو الفصائل المعارضة والتحالفات الداعمة لفصائل المعارضة بين «جبهة الجنوب» قرب حدود الأردن و «جبهة الشمال» قرب حدود تركيا. هذه الحساسيات لم تكن ذاتها في طهران والضاحية الجنوبية. اذ ان الروسي، كان دائماً يوفر الغطاء الدولي في مجلس الأمن ضد «تغيير النظام» والمس بالسيادة السورية و «التدخل في الشؤون الداخلية»، إضافة الى تقديم كل الدعم العسكري والمالي الى سورية من «بوابة المؤسسات الرسمية». في المقابل، فتح الإيراني أقنية موازية: الميلشيات و «قوات الدفاع الوطني» واقتصاد الظل والشبكات غير الرسمية في الفضاء المحسوب له تاريخياً.
من يعرف الديبلوماسية الروسية، يقول ان الروس بارعون في إطلاق العملية التفاوضية. يمضون وقتاً في التفاوض على تفاصيل العملية ويدخلون الأطراف في عملية تأخذ وقتاً. «منتدى موسكو» الذي عقد قبل ايام، لن يكون الأخير، أبداً. انه تمرين للأطراف السورية، تحديداً النظام، على الحديث في السياسة وصولاً الى حافة الحل سواء عبر العودة «جنيف -٣» او عقد الصفقة الكبرى.
ومن التقى نائب وزير الخارجية الروسي ميخائيل بوغدانوف، عراب تنفيذ سياسة بوتين، لاحظ ان هناك بحثاً عن «نظام جديد» في سورية ووفق الفهم الروسي من دون ان يعني ذلك «إسقاط النظام». فسرها معارضون وحلفاؤهم انها «إعادة الشرعية للنظام بإصلاحات شكلية» او «إعادة إنتاج النظام». هناك أسئلة جدية تطرح وراء الجدران مع الحلفاء والمنافسين عن حدود هذا «النظام الجديد» والأشخاص فيه. هناك إدراك روسي ان سورية الحالية ليست سورية الثمانينات عندما رعى الروسي حلاً عزز مواقع الرئيس حافظ الأسد بعد محاولة شقيقه رفعت الانقلاب عليه. بعث وقتذاك حافظ الأسد جميع معاونيه الى موسكو في رحلة باتجاه واحد. أراد القول انه الآمر الناهي ولا قيمة لأي منهم من دونه لبقاء النظام. ثم استعاد احدهم بعد الآخر باستثناء رفعت. روسيا – بوتين تعرف ان هذا الزمن ولى داخلياً وإقليمياً ودولياً.
ما يسعى اليه الروسي تطبيق تفسيره لـ «بيان جنيف» وخصوصاً البند المتعلق بـ «تشكيل هيئة حكم انتقالية بصلاحيات تنفيذية كاملة بقبول متبادل». كانت هذه الفقرة حلاً وسطاً بين الرأيين الأميركي والروسي. الدول الغربية بقيادة أميركا، كانت تريد ان ينص بيان جنيف في حزيران (يونيو) ٢٠١٢ على «رحيل الرئيس بشار الأسد» عن السلطة، ثم جرى اقتراح عبارة «استبعاد من تلطخت ايديهم بالدماء» من تركيبة الهيئة الانتقالية. لكن وزير الخارجية الروسي رفض الأمرين، فكان الحل الوسط هو عبارة «قبول متبادل».
وقتذاك، خرج كل طرف ملتزماً تفسيره لـ «بيان جنيف». لافروف قال إن «الاتفاق لا ينص على رحيل الأسد»، فيما قالت وزيرة الخارجية الأميركية السابقة هيلاري كلينتون انه نص على «تنحي الأسد» وإن الاتفاق «يمهد الطريق لما بعد الأسد»، الأمر الذي وافق عليه وزيرا الخارجية البريطاني الأسبق وليم هيغ والفرنسي لوران فابيوس الذي قال انه «لا مجال للشك في ان على الأسد الرحيل». بين هذا وذاك، التزم وزير الخارجية الصيني موقف بكين من ان «العملية السياسية يجب ان تكون بقيادة سورية وموافقة كل الأطراف في سورية»، وهو اقرب الى موقف المبعوث الدولي – العربي الأسبق كوفي أنان من ان «الأمر متروك للشعب للتوصل إلى اتفاق سياسي».
التفسير الروسي، حالياً، وفق من التقى بوغدانوف وغيره، ان مرحلة «تغيير النظام» انتهت وإن تفسير»بيان جنيف» هو ان إزالة عبارة «من تلطخت أيديهم بالدماء» وضعت النظام – الحليف في موقع تفاوضي أقوى: بدلاً من أن يكون هناك حق نقض (فيتو) لدى المعارضة وحلفائها على ممثلي النظام في الهيئة الانتقالية، بات هناك «فيتو» متبادل ويد أقوى للنظام، أي ان يلعب النظام الدور القيادي في تشكيل «الانتقالية» لتصبح اقرب الى حكومة وحدة وطنية أو حكومة موسعة، باعتبار ان دمشق «تحفظت» منذ صدور «بيان جنيف» على مبدأ «الانتقال السياسي». ويستفيد الروسي من تغير الظروف الآن عما كانت عليه لدى صدور «بيان جنيف»، سواء ما يتعلق بالنهايات الموقتة لـ «الربيع العربي» او تنامي وجود «داعش» وزيادة الشعور في الدول الغربية بالتهديد الإرهابي القادم من سورية.
الرهان الخفي الآخر، لدى روسيا، هو «تفتيت» المعارضة. هذا موضع حذر لدى معارضين وحلفائهم. على عكس ما كانت الحال في بداية العام الماضي. عندما عقد «جنيف -٢»، أصرت أميركا على قيادة «الائتلاف» لوفد المعارضة، استناداً إلى قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة الاعتراف بـ «شرعية الائتلاف». أما الآن، فإن «منتدى موسكو» يبحث عن كسر احتكار «الائتلاف». لذلك، لم تكن موسكو سعيدة بأن يعقد لقاء المعارضة في القاهرة بحثاً عن توحد المعارضة. أيضاً، لم تكن موسكو مرتاحة من ان اجتماع «النواة الصلبة» التي تضم ١١ دولة من «أصدقاء سورية» الأخير في لندن، لم يتضمن التخلي عن «الائتلاف» بل ان الحاضرين اتفقوا على انه لا يزال «قلب وقائد» المعارضة، مع تشجيعه على «قيادة وضم» بقية أطراف المعارضة.
حاول معارضون سوريون جرّ روسيا الى الأرض السورية. ان تكون «ضامناً» لاتفاقات المصالحات بدءاً من حي الوعر في حمص. ان تقدم نموذجاً مختلفاً عن ذاك الذي قدمته الرعاية الإيرانية في حمص القديمة بمشاركة إشكالية للأمم المتحدة وأسئلة حول مدى التزام النظام، على ان يجرى الانتقال لاحقاً الى رعاية «تجميد» الصراع في حلب وفق خطة المبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا. أمل هؤلاء كان ان تطلق موسكو قطارها على سكتي «منتدى موسكو» و «تجميد الصراع».
وإذا كانت توجهات المعارضة وحلفائها، بينة الى حد كبير، فإن أسئلة تطرح حول مدى استجابة النظام التفسير الروسي لـ «بيان جنيف» والحدود الذي يستطيع فيها بوتين ان يطوّع الطموحات الإيرانية تحت العباءة الروسية في سورية آخر معاقل النفوذ في الشرق الأوسط، وإلى أي حد يستطيع النظام المرور عبر الشقوق الروسية – الإيرانية؟. أيضاً، مدى إمكانية بيع التفسير الروسي لـ «بيان جنيف» على الأرض السورية والدول الإقليمية بعد «خراب البصرة»؟
رابط الخبر: