جمال قارصلي
من دواعي الحكمة والعقلانية أن تتكلم الأطراف المتنازعة مع بعضها البعض عوضا من أن تتكلم الأسلحة وهذا يجب أن يكون هدف كل الجهود المبذولة من أجل إنهاء الأزمة السورية. تعقيدات هذه الأزمة كثيرة ومركبة لأن القوى والمجموعات المشاركة فيها متعددة الأطراف والمشارب ومتباعدة في وجهات نظرها في البحث عن حل للأزمة السورية وخاصة طرفي النزاع الرئيسيين – المعارضة والنظام – لديهما أهداف متناقضة كليا وكل منهما يسعى للوصل إلى هدفه وبأية طريقة كانت. النظام يعمل على أن تسلمه المعارضة سلاحها وترجع إلى “بيت الطاعة” وبالمقابل المعارضة تهدف إلى أن يسلمها النظام مفاتيح الحكم ويغادر البلاد. حتى أن طرفي النزاع يستخدمان مصطلحات مختلفة بالشكل والمضمون: المعارضة تتحدث عن مفاوضات والنظام يختبيء خلف مصطلحات خادعة مثل حوار ومباحثات, حيث أنه منذ بداية الثورة السورية والنظام يتحدث عن عملية الحوار وأنه يريد أن يحاور المعارضة في الداخل وهو يعلم بأن عملية الحوار هي ليست أكثر من كلام يتم تبادله بين طرفين متحاورين يتضمن حججا وبراهينا تدعم أقوال كل طرف أمام الآخر, وإذا زادت وتيرة هذا الحوار فيتحول إلى سجال عقيم. النظام يريد حوارا كما يتصوره هو, أي أن يكون هو جالس في الأعلى والمعارضة في الأسفل وتستقبل أوامره وتوجيهاته وتنفذها. هذا التصرف ليس غريبا على هذا النظام لأنه إعتاد على هكذا حالات منذ عشرات السنين, حيث أنه نسي كيف يمكن التعامل مع الشعب بطريقة محترمة تضمن كرامة وقيمة المواطن. هو يعاملهم منذ صعوده على الحكم كعبيد وخدم ولا يتصور بأن يرقى هذا الشعب إلى مستوى برجه العاجي ويحاوره بندية ومساواة.
ما عشناه في مؤتمر جنيف 3 الأخير والذي تم تعليقه إلى 25 الشهر الجاري هو أفضل مثال على تهرب وفد النظام من أن يوفي بشروط التفاوض التي نص عليها قرارا مجلس الأمن 2254 وظل يتكلم عن “محادثات” أو حتى ما قبل المحادثات أو التحضير للمحادثات وليس عن مفاوضات لأن للمحادثات مدلول يختلف كليا عن مدلول المفاوضات. المحادثات آتية من كلمة “حديث” أي يعني هو حديث أطراف متعددة مع بعضها البعض حول موضوع معيّن لا يوجد فيه أي نوع من المساومات أو التنازلات أو الإلتزامات, في النهاية تكون النتيجة كما يقول المثل الشعبي “حكي بحكي”.
علينا أن نعلم بأن النظام يخاف من المفاوضات كما يخاف إبليس من المعوذات. فلهذا فهو يحاول وبكل ما بوسعه أن يتحاشى كل شيء له علاقة بالمفاوضات, لأن المفاوضات تعني بالنسبة له النهايه الحتمية وهو في الحقيقة يعلم بأنه إذا قام بأي تنازل للمعارضة من أجل إنقاذ الوطن من الكارثة التي يمر بها فهذا سيؤدي إلى إنهياره كليا لأن نظامه مبني على ديكتاتورية مطلقة وبزوال أية دعامة في هيكليته ستؤدي إلى إنهياره. إضافة إلى ذلك فإن مقومات وشروط المفاوضات غير متوفرة بين طرفي النزاع لأن التوازن بين القوى مفقودا الآن وهو يميل لصالح النظام الذي لديه أصدقاء حقيقيين وبالمقابل لا يوجد للمعارضة إلا القليل من الأصدقاء والكثير من “الأعدقاء” أي أعداء متنكرين بملابس أصدقاء. النظام لا يستطيع أن يقدم أي شيئ من التنازلات من أجل إنقاذ الوطن في محنتة الراهنة حتى ولو أراد ذلك, إلا إذا كان مستعدا للتنازل عن كل شيء وبشكل كامل والإنسحاب من الساحة السياسية. في الحقيقة لم يبق للنظام أي مجال للمناورة لأنه سلّم كل صلاحيات القرار لأصدقائه الروس والإيرانيين وحزب الله وغيرهم, وأفضل مثال على ذلك هي الإتفاقية الأخيرة التي أبرمها مع الروس والتي تعطيهم صلاحيات مطلقة بتدمير سوريا وبدون الخوف من أية محاسبة على أعمالهم الإجرامية.
ما يقوم به النظام يتم بمباركة الولايات المتحدة الأمريكية وبدعم مطلق من روسيا وإيران وقوى إقليمية ودولية أخرى وكذلك إسرائيل تعمل كل ما بوسعها على منع رحيل النظام أو سقوطه وهي في الحقيقة من أكبر الداعمين له في الأروقة والمحافل الدولية. من الواضح بأنه لدى النظام مخططات بديلة ومنها على سبيل المثال هو إنسحابه إلى دويلة صغيرة على شواطيء الساحل السوري ولكن نجاحها ليس مضمونا.
بالنسبة للنظام لا يوجد حل وسط, إما الإنهيار أو حكم البلد بالحديد والنار, فلهذا هو سيستعين بتكتيك المماطلة والتسويف والتهرب من الشرعية الدولية بقدر ما يستطيع ولا يستطيع أحدا أن يرغمه للذهاب إلى طاولة المفاوضات إلا قوة عسكرية كبيرة لأن هذا النظام لا يفهم قوة المنطق بل فقط منطق القوة.
جمال قارصلي / نائب ألماني سابق من أصل سوري