عبدالباسط سيدا – الحياة
استعاد السوريون في الجمعة الأولى التي أعقبت الهدنة الموقتة، أجواء أعراسهم الوطنية الكبرى الجامعة التي عمّت وطنهم في السنة الأولى للثورة. فقد خرجت التظاهرات السلمية في مختلف المناطق، وجدّد المشاركون فيها مطلبهم العادل الرئيس المتمثّل في نظام يضمن حريتهم وكرامتهم ومستقبلاً أفضل لأجيالهم المقبلة. وذلك لن يكون من دون إسقاط النظام الاستبدادي الإفسادي، المسؤول الأول عن كل ما لحق بسورية والسوريين قتلاً وخراباً وتدميراً.
واللافت في هذه التظاهرات، عودة علم الاستقلال ليرفرف زاهياً شامخاً بوصفه الرمز الذي توافق عليه السوريون، ويزيح جانباً كل الرايات الوافدة التي جلبها أغراب ذوو عقد مرضية، ومشاريعهم وحساباتهم التي تتناقض بالمطلق مع آمال السوريين وتطلعاتهم. عاد علم الاستقلال ليؤكد مجدداً أنه راية المطالبين بالحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية لكل السوريين من دون استثناء، راية الداعين إلى القطع النهائي مع سلطة الاستبداد والإفساد في كل أشكالها وصيغها.
ولعودة علم الاستقلال إلى صدارة المشهد دلالات كبرى على إصرار السوريين، بعد خمس سنوات من تجربة مريرة اختلط خلالها الحلم بالألم، والأمل بالإحباط، والثقة مع التوجس. خمس سنوات أدرك السوريون بحصيلتها، أن مصير أبنائهم وأحفادهم وأجيالهم المقبلة مسؤوليتهم الأولى وقضيتهم المحورية التي لا تمتلك أي اعتبار في حسابات الآخرين ومصالحهم، الذين تبنّوا استراتيجية النظام وحلفائه، وأعطوا الأولوية للإرهاب العرضي الفرعي، وغضّوا الطرف عن الإرهاب الجوهري المركزي، وهو إرهاب النظام الرسمي المنظم، الذي كان وما زال أساس كل الإرهاب في المنطقة.
لقد أثبت السوريون، عشية احتفالهم بالذكرى الخامسة لأعظم ثورة في عالمنا المعاصر، أنهم ما زالوا على العهد في مواجهة الإرهاب الرسمي والإرهاب الظلامي. كما أكدوا أن ما يتطلعون إليه يتناقض تماماً مع المشاريع المذهبية الطائفية الانعزالية البغيضة في كل أشكالها ومسمياتها، وهم يدركون بحسهم السليم وبالبرهان والدليل، أن أصحاب تلك المشاريع المتناقضة ظاهراً يتبادلون النسغ والأدوار بينهم.
لقد عمل النظام كل ما كان في وسعه لإلصاق تهمة التشدد والإرهاب بالثورة، وتشويه سمعتها، كما استقدم كل شذّاذ الآفاق، بالتنسيق مع الحليف الإيراني، لمحاربة المعارضين، ودفع الأمور نحو فوضى عارمة منظمة، ليقدم نفسه بوصفه البديل الأفضل، أو الأقل خطورة. وقد حرص دائماً بكل إمكاناته، على إبعاد العلويين والكرد والمسيحيين والدروز من الثورة، ليتمكّن من تسويق استراتيجيته القائمة على زعم مفاده أن ما يجري في سورية لا يخرج عن نطاق صراع على السلطة بين متشددي المكوّن العربي السني والسلطة «العلمانية حامية الأقليات». ونجح النظام إلى حدٍ كبيرٍ في تسويق هذا الزعم نتيجة أخطاء المعارضة من جهة، وتقاطع المصالح مع المتحكمين بمفاصل المجتمع الدولي من جهة ثانية.
لكن السوريين الغيارى في الوطن الجريح أكدوا ببساطتهم وعفويتهم، بصبرهم وتحمّلهم، بصدقهم وإخلاصهم، وبما لا يدع مجالاً للشك، أن إمكان استعادة الوجه المشرق للثورة مسألة واقعية شرط توافر الإرادة والقدرة على التعبير.
يحتفل السوريون والسوريات بأساليبهم الإبداعية بالذكرى الخامسة لثورتهم، وهم في خشية حقيقية مما يدبَّر لهم ولبلدهم. فهناك من يتحدث عن إمكان فرض تقسيم جديد لا يراعي مصالحهم الحقيقية، بل يرتكز على حسابات ومصالح من يخطط ويشرف على تنفيذ ما يُحضَّر له، وإذا تحقق لهؤلاء ما يريدونه ستكون الحصيلة في نهاية المطاف جملة كيانات هشة متنازعة، تعتمد في وجودها على القوى الدولية والإقليمية وتلتزم سياساتها ومصالحها. كيانات قد توحي بأنها الحل، لكنها في الحقيقة بداية لمشكلات كبرى، تعيد المنطقة قروناً إلى الوراء، وتتسبّب بتبديد إمكاناتها البشرية والمادية.
الحل الأمثل بالنسبة إلى السوريين، كل السوريين، التمسّك بالمشروع الوطني المدني الديموقراطي الذي يحترم حقوق سائر المكوّنات والأفراد وخصوصياتهم، ويلغي كل أشكال التمييز والتهميش، ويعتمد النظام الإداري الذي يعطي صلاحيات واسعة للسلطات المحلية المنتخبة، فيما يقتصر دور المركز على توفير مقوّمات التنسيق والتكامل، والمساعدة في ميدان العمل لحل المشكلات، وتمثيل البلاد على المستوى الدولي.
ومثل هذا المشروع سيجعل من سورية عامل استقرار في المنطقة بأسرها، وستصبح بموجبه جسراً للتواصل بين الجميع، محتفظة بكل أبنائها، بل فاتحة أحضانها لأولئك الذين أرغمتهم الظروف على الرحيل.
المكوّنات المجتمعية السورية على اختلاف مذاهبها وأديانها وقومياتها وتوجهاتها تستطيع التعايش، بل ترغب فيه، وتعمل له. أما النظام وأتباعه، فيدفعون الأمور في الاتجاه المعاكس، بقاءً في سورية «المفيدة» بعدما تيقّن من استحالة استمراره على مستوى سورية كلها.
سورية المدينة الديموقراطية التعددية العادلة الموحدة هي لمصلحة الجميع من دون استثناء. وللمصالح في عصرنا هذا الأولوية، أما المشاعر والأحاسيس والنزعات الوجدانية فتبقى من عالم الدواخل، عالم الأحلام والتمنيات والرغبات، الذي يمكن أن يغدو واقعاً في حال تقاطعه مع المصالح.
الثورة السورية في طريقها نحو استعادة ألقها ورونقها بعد تجربة مريرة أليمة مع الاستبداد والإرهاب. لكن هذا لن يتحقق من دون تضافر جهود سائر السوريين، بخاصة المفكرين والمثقفين والإعلاميين ورجال الأعمال والعاملين في إطار منظمات المجتمع المدني. والشعب السوري سيتجاوز بفضل نضال أبنائه وتضحياتهم، محنته وهو أكثر وعياً وخبرة بقضاياه ومشكلاته، وأقدر على وضع الحلول الواقعية الموضوعية لها بعيداً من منطق التغييب والانتقام والرهاب والإرهاب.
سورية التي عرفناها وتباهينا بها باستمرار، وضحّى في سبيلها شعبنا بأعز ما يملك، لن تعود إلا بكل أبنائها ولكل أبنائها.
الحياة