غازي دحمان – الحياة
كشفت روسيا، على لسان نائب وزير الخارجية سيرغي ريابكوف، عن الخيار الذي تفضّله، هي والحلف الذي تقوده، بالنسبة إلى الحل في سورية، وهو الجمهورية الفيديرالية. وبدا هذا الطرح بمثابة توجيه صريح للمفاوضات التي يفترض أن تنطلق في جنيف، ما يعني إلغاء كل بنود التفاوض السابقة بما يتماشى مع الطرح الجديد المبني على معطيات واقعية تعتقد روسيا بأنها أرستها في حملتها العسكرية.
سبقت هذا الكشف الروسي دعوة هيئة التنسيق (المعارضة الداخلية) إلى «التركيز على بدء المفاوضات المقبلة على الدستور الجديد لا على هيئة الحكم الانتقالية لأن الدستور يضمن الانتقال إلى نظام سياسي ديموقراطي». لكن الواضح أن الهدف هو القول إن تحديد شكل الدولة المقبل في سورية بات العنصر الأهم لأي عملية سياسية، وتصادف هذا الأمر أيضاً مع نشر موقع «روسيا بيوند هيدلاينز» المقرّب من الكرملين لمقال تحليلي لفلاديمير ميخيف بعنوان «سورية: الفدرلة أو البلقنة»، يقول كاتبه أنه «نظراً إلى إرث الثأر الدموي فإن خيار الدولة السورية الموحدة قد فات أوانه»، ويخلص إلى أن» المستقبل السياسي والعسكري في سورية يمكن أن يتأرجح في أي من الاتجاهين: الفدرلة أو البلقنة».
وبذلك يثبت يوماً بعد يوم أن كل مراحل الأزمة السورية كانت تدار بتفكير وتخطيط عميقين، وأن هناك تحالفاً ضم نظام الأسد وروسيا وإيران تولى منذ اللحظة الأولى للثورة، إدارة كل الأحداث التي شهدتها سورية، ففي حين تكفّل نظام الأسد بإفراغ الثورة من محتواها المدني وأسلمتها، كانت إيران وأذرعها تسرّع في عمليات التفريغ الديموغرافي على نطاق واسع ضمن قوس يمتد من حدود درعا جنوباً حتى حمص غرباً، ثم جاء التدخل الروسي ليرسم خطوط التماس في شكل واضح، ليس بين المقاتلين، بل بين المكونات السورية ذاتها، من أجل تسهيل اندراج التصور السياسي للحل وإدماجه مع واقع ديموغرافي وجغرافي منجز.
ليس من الصعب معرفة الأهداف الروسية من وراء طرح الفيديرالية، فالطرح لم يلد فجأة بل هو نتيجة سياق جرى بناؤه على مراحل، وتمّ تجهيز البنية المناسبة لتشغيله، أما أهدافه المباشرة فيمكن حصرها في ثلاثة أهداف تبدو متناسقة مع طموحات روسيا الجيوسياسية ومصالحها على المدى البعيد وتتمثل بـ : إلغاء تأثير الأكثرية السنية لأنها سترفض الوجود الروسي في المنطقة، ضمان استمرار وجودها في البحر المتوسط بطلب من الإقليم «العلوي» الذي سيبقى في حالة خوف وصراع مع الإقليم «السني»، وضمان حصول الأكراد على إقليم على طول الحدود مع تركيا وهذا له فائدتان: قطع أي اتصال عربي – تركي، ومنع إمكانية مد خطوط الغاز العربية إلى أوروبا عبر الأراضي السورية.
ولكن ما هي حدود أقاليم الفيديرالية؟ حتى اللحظة تنحصر مكونات الفيديرالية بثلاثة أقاليم، علوي، كردي، سني. يمتد الإقليم العلوي من حلب حتى درعا، والحدود هنا تتطابق مع سيطرة نظام الأسد وحلفائه على مساحة تشكل حوالى ثلث سورية ولكنها تضم الكثافة السكانية الأكبر وحجم الموارد الأهم، أما الإقليم الكردي فيمتد على طول الحدود السورية التركية، في حين ان الإقليم السني المقصود هو المساحة التي يسيطر عليها تنظيم «داعش» بين الإقليمين العلوي والكردي، وتستطيع روسيا الإدعاء بأن هذا الإقليم لديه موارد نفطية ومائية وأراض زراعية كافية، كما أنه يرتبط برياً بالعراق والأردن.
تدرك روسيا أن مشروعها سيتم رفضه من قبل الكثير من اللاعبين المحليين والإقليميين وحتى الدوليين، وتعلم أيضاً أن الفيديراليات لا تنجح في المشرق وهي ليست سوى التعبير المخفّف للانتقال إلى التقسيم والدويلات، لكنها تزرعه في سياق الأزمة وتعمل على تثميره لتحويله كخيار وحيد قابل للتطبيق في سورية. فوجودها العسكري يتيح لها مروحة واسعة من الخيارات التي ستجعل من الفيديرالية الحل الأكثر قبولاً من كل الأطراف، وستراهن على تعب جميع اللاعبين وخضوعهم لرؤيتها. على ذلك فإن المرحلة التي ستعقب انهيار الهدنة أو توقف مفاعيلها ستكون أكثر مراحل الأزمة السورية دموية ودماراً بما يتناسب مع تطويع جميع الأطراف للقبول بالفكرة.
الهدنة ذاتها لم تكن خارج صناعة السياق، فالتشبيك مع أميركا كان هدفه إبعاد تأثير اللاعبين المحليين وإلغاء إمكانية بناء إجراءات تدخل سعودية – تركية تؤثر في السياق الذي تعمل روسيا على صناعته، وذلك في سبيل تكريس الوقائع التي صنعتها بعد أن تركزت جهود حملتها العسكرية على تظهير الإقليمين العلوي والكردي وإضعاف الإقليم السني إلى أبعد حد ومحاصرته باتجاه العراق والأردن.
دور إيران وحصتها حاضران في قلب هذه الفيديرالية، وكانت قد مهّدت لها بخطتها ذات الأربع نقاط والتي اقترحت فيها تعديل الدستور بحيث يتضمن مادة عن حقوق الأقليات، كما أن غالبية استثمارتها ومصالحها تقع في إطار منطقة دمشق، وجسرها الأرضي باتجاه العراق مضمون عبر ريف دمشق الشرقي.
التطبيقات العملانية لهذه الفيديرالية ستكون عبر آلية إخراج الفصائل المقاتلة من المنطقة الخضراء التي رسمتها خطوط الهدنة الروسية صوب مناطق «داعش»، أو الإقليم السني المفترض، وكذلك من خلال تبادلات أرضية هنا وهناك احتاطت لها روسيا من خلال زيادة رقعة سيطرة قوات حلفائها على الأرض.
كان واضحاً أن الحملة الروسية التي استمرت خمسة أشهر كانت ترسم بعواصف نيرانها خطوط الحل السياسي، من الشمال إلى الجنوب، كما أن المعركة الديبلوماسية التي قادتها بشراسة كانت مبرمجة على مقاس هذا الحل، وبخاصة عبر إصرارها على إلغاء حصرية تمثيل المعارضة بمؤتمر الرياض، ومحاولتها بشتى الطرق تضمين قرار مجلس الأمن الأخير عبارة الحفاظ على استقلال سورية وسيادتها بما يضمن عدم تدخل أطراف إقليمية وعربية تؤثر في هندستها للوضع السوري.
الحياة