خطيب بدلة – العربي الجديد
في اعتقادي أنه لا يوجد شعبٌ في العالم اليومَ يستطيع أن يجاري الشعب السوري في التهكم، والسخرية، والمقدرة على استعارة الأقوال والأمثال الشعبية، وتطبيقها على ما يحصل في أرض الواقع من تآمر، ومآسٍ، وقتل، وتشريد، وتهديم منازل، وتخريب بنى، وخيبات، وقرف، ووعود، ودجل، وضحك على اللحى..
مما يحفظه السوري، في ذاكرته، حكاية عن رجلٍ يعشق زوجة فلاح، ويمضي الليل والنهار، وهو يحوِّم حول بيتها مثلما تُحَوِّمُ الفراشة حول المصباح في ليالي الصيف. وذات مرة؛ كَمَنَ له زوجها، حتى ظَهَرَ، فصاح به أن يقف، وإذا به يملأ كفه من كيسٍ مملوء بالعدس ملقى أمام الباب ويهرب، فهب الفلاح يتبعه، ويصيح به أن يقف لكي يكسر رأسه… ولما سئل الرجل عن سبب هربه، كان يقول: سرقت له (كَفْ عدس) وأما الفلاح فكان يجيب: مَن يعرف القصة يعرفها، ومَن لا يعرفها يقول: كف عدس.
والآن، كلما سمعنا شخصاً يقوقئ، ويبيض، متحدثاً عن الوحدة الوطنية، واستقلالية القرار الوطني السوري، ومستقبل سورية الحرة، الموحدة، الديمقراطية، الخالية من الاستبداد السياسي والديني والاجتماعي، نقول له: كف عدس.
يتفرّج السوري اليومَ على المحطات التلفزيونية التابعة لعصابة الأسد، فيروّعه صراخُ المحللين الاستراتيجيين الذين يدافعون عن النظام، وهم يتحدثون عن ولعهم بالحرية، والإصلاح، والديمقراطية، و.. وينفلت بالضحك عندما يتحمسُ أحدُهم ويقول: يا أخي، تعالوا نحتكم إلى صناديق الاقتراع، ومن ثم نقبل جميعاً بالرئيس الذي ينتخبه الشعب السوري.
يستمر المتفرج السوري بالضحك، ويشرعُ بتذكّر السنوات العجاف اللواتي مررنَ علينا منذ أواخر سنة 1970. فبموجب الدستور الذي وضعه الجنرال، حافظ الأسد، بعد نجاح انقلابه العسكري واستيلائه على السلطة، يكون انتقاء رئيس الجمهورية بأن تعلن القيادةُ القطرية لحزب البعث العربي الاشتراكي اسمَ مرشحها الرئاسي، وهو، في كل مرة، ويا لمحاسن المصادفات، الرئيس حافظ الأسد، نفسه..
هذا الإعلان، في الحقيقة، يُعطي شارةَ البدء لانطلاق ما أسماه الإعلام السوري “عرس الديمقراطية”؛ إذ تكتسي البلادُ السورية، من أقصاها إلى أدناها، بحلة قشيبة من الزينات، وتُرْفَعُ الأعلام واللافتات، وصور قائد المسيرة المناضل، بطل الصمود والتصدّي، باني سورية الحديثة،… وأما الشعبُ (الذي ينطبق عليه قول أحمد شوقي، في مسرحية كليوباترا: أنظر الشعبَ دُيُونو، كيف يوحونَ إليهِ، ملأ الجو هتافاً، بحياةِ قاتليهِ، أثَّرَ البهتانُ فيهِ، وانطلى الكذبُ عليهِ، يا له من ببغاءٍ، عقلُه في أذنيهِ!)… فينطلق مغادراً البيوت، والدكاكين، والمصانع؛ ليشارك في عرس الديمقراطية بالمسير والهتاف والرقص والدبكة، والزغاريد. ولا يعود الناس إلى بيوتهم إلا بعد أن تشوى جلودهم تحت شمس الصيف الحارقة، وتمتلئ ثيابهم بالعرق والغبار، وتتورّم أقدامهم من كثرة الوقوف والسير والركض والرقص الإجباري.
وأما الأشخاص المساكين، الذين يُحاولون الهربَ، أو التهرّب، أو التغيّب عن حضور هذه المُسَيَّرَات “العفوية”، فيسارعُ موجهو المدارس، وأمناءُ الفرق والحلقات الحزبية، والمخبرون المتطوعون، إلى تسجيل أسمائهم وإيصالها إلى الجهات المختصة، ليصبحوا، منذ هاتيك اللحظة، أناساً مشبوهين، لا يُستبعد أن يكونوا متعاملين مع الاستعمار والإمبريالية والصهيونية العالمية. ويصبح شغل المخابرات الشاغل استدعاءهم، وإذلالهم، وربما اعتقالهم بتهمة التخاذل وإثارة البلبلة في صفوف الشعب.
لم يتغير الوضع، على أيام الوريث القاصر بشار الأسد، عمّا كان في أيام الجنرال الراحل، بمقدار أنملة، وازداد التمسك بفكرة الالتفاف حول القائد الشاب، بعدما ارتفعت وتيرة التآمر على صمود سورية، إثر اغتيال رفيق الحريري، ولم يعد المواطنُ الذي يعترض على ترشيح القيادة القطرية بشار، أو يتذمّر منه، أو يمتنع عن المشاركة في عرس الاستفتاء الجماهيري، مجرد إنسان مشبوه، بل هو متهم، مدان، ضالع في التآمر مع جماعة 14 آذار على صمود الوطن.
فعن أية صناديق اقتراح تتحدّث، يا عين عمك؟ إنه: كف عدس.
العربي الجديد