محمود الريماوي – العربي الجديد
بينما بدت تركيا شبه مشلولة عسكرياً على حدودها مع سورية، فقد احتفظت بحق مناوأة حزب الاتحاد الكردي وشن غارات جوية عليه داخل الأراضي السورية، وهو أمر تراه موسكو استفزازاً لها، بعد أن وقعت روسيا البوتينية، أخيراً، في حب الأكراد، ومع تنبّهها إلى أن هؤلاء “ورقة”، يمكن استخدامها ضد أنقرة.
في واقع الأمر، تبدي أنقرة شعوراً أكبر بالمسؤولية من موسكو، خشية انتقال الحال المتوتر إلى ما هو أسوأ بين الجانبين على الحدود بين سورية وتركيا، أو في الأجواء والأراضي السورية، بينما موسكو التي ادعت أنها أتت لمحاربة داعش، فإنها تضع، كما يبدو، تركيا في مقدمة أهدافها، سعياً إلى حرمان الجار التركي لسورية من أي نفوذ أو حضور في هذا البلد، وتحت طائلة قيام حرب عالمية ثالثة!
وها هي موسكو التي انتشت بتزيين صورتها في بعض وسائل الإعلام، على أنها تمسك بمفاتيح الحرب والسلم في سورية، ها هي تبدو شبه وحيدة بغير حلفاء وشركاء، فالهوة بدأت تتضح بينها وبين حليفتها طهران، وهذه مرشحةٌ للاتساع، في ضوء انفراد موسكو بتصميم مفاوضات جنيف مع واشنطن، والانفراد العسكري الروسي في الأجواء السورية وفي مناطق الساحل، والانخراط المتزايد في صنع مستقبل سورية.
في هذه الغضون، زار رئيس الوزراء التركي، أحمد داود أوغلو، إيران، أخيراً، في تطورٍ بدا مفاجئاً . معلومٌ أن الطرفين يحرصان على إبقاء ما هو أقوى من شعرة معاوية بينهما، وذلك في ميدان التبادل التجاري. كانت تركيا أقرب إلى طهران في المفاوضات مع الغرب حول الملف النووي. الآن، وما بعد الاتفاق مع الغرب، تعرب أنقرة عن استعدادها لمزيد من التعاون بين البلدين. تركيا مطلقة اليدين، ولا تكبلها عقوباتٌ مثل روسيا، ويمكنها التعاون إلى أقصى حد مع طهران، وسيكون لذلك بعض الانعاكاسات السياسية. لن تقترب طهران من أنقرة بخصوص الأزمة السورية، ولن تبقى قريبةً من موسكو بهذا الخصوص أيضاً. والأهم من ذلك أن الجانبين، الإيراني والتركي، لن يسمحا بنمو الكيانات الكردية. سحب الورقة الكردية أو التقليل من أهميتها وإضعاف وزنها، هذا هدف تركي في هذه المرحلة. وتأخذ واشنطن ذلك في الاعتبار، وتحدّ من دعم الأكراد الذين يلقون دعماً روسياً، يضاف إلى دعم النظام الذي يضطهدهم، ويستخدمهم سياسياً عند الحاجة. ولا يجد الاتحاد الكردي، حتى الآن، مقعداً في مفاوضات جنيف، وليس معلوماً إذا وصل إلى هناك، فلسوف يفاوض من..؟
ما زالت تركيا مكبلة عسكرياً في الداخل السوري. الفراغ الذي بقي قائماً في ذلك البلد خلال
عامي 2012 و2013، بادر الإيرانيون وداعش والروس إلى ملئه، بعد طول تردّد تركي سعودي، غير أن تركيا تظل تتصرف على أنها جار لسورية، خلافاً لروسيا التي تجاور تركيا لا سورية. وتملك تركيا، معنوياً وسياسياً، أن تخوض في الشأن السوري بخلاف روسيا، فعلى الأرض التركية، يقيم مليونان ونصف مليون سوري، بينما لم تسمح موسكو لعشرة سوريين بدخول أراضيها، وبدلاً من ذلك، فإن تدخلها العسكري، منذ سبتمبر/ أيلول الماضي، أدى إلى تضاعف موجات النزوح الكارثية، وإلى مقتل مئات من المدنيين، وجرح مئات آخرين، وتهديم مدارس ومستشفيات. وهذا السلوك ليس من شيم دول متحضرة، ولا من شيم دول متخلفة، تعيش في القرن الحادي والعشرين. وها هو التدخل العسكري ينتهي الى التلويح بمشاريع سياسية قريبة من التقسيم، فالروس، كما هو بادٍ، منشرحون لوجودهم في اللاذقية والساحل السوري، ولا بأس أن تتشكل من تلك المناطق دولة قائمة بذاتها ترتكز إلى الوجود العسكري الروسي فيها مع منح الأكراد دولة لهم في مناطقهم. هذا بينما السجل التركي في التعامل مع المدنيين السوريين أفضل بما لا يقاس، وحيث لا تصح المقارنة.
مع إقامة الدبلوماسية الروسية على جموحها، بخصوص الجار التركي، ومع سعي موسكو إلى التعامل مع بلاد الأناضول كدولة صغيرة لا حول ولا قوة لها، على الرغم من انضوائها في حلف الأطلسي، فإن تركيا، من جهتها، لا تعدم وسائل دفاعية ذات نجاعة هجومية، فمقابل سعي موسكو إلى تجريد أنقرة من كل الأوراق، فقد انبرت أنقرة لاعتبار التمدد الروسي، في العامين الأخيرين، على أنه أمر شاذ وغير شرعي، من قبيل ضم شبه جزيرة القرم. قال رئيس الوزراء التركي أوغلو، أخيراً، إن بلاده لا تعترف بالضم الروسي لشبه الجزيرة هذه. إعادة فتح ملف القرم (وتاليا الأزمة الأوكرانية) هو بمثابة رفض تركي للتمدد الروسي، ونزع الشرعية عنه. وفي المقابل، لن تترجم المكاسب العسكرية التي حققها الروس لمصلحة النظام، حسب المنظور التركي، إلى مكاسب سياسية. فروسيا تقف وحيدةً ضد الإجماع الإقليمي والدولي، فيما إيران والصين تتفرجان على جنيف من بعد. أما المكاسب المالية (النفطية) الروسية من التدخل، فهي سراب حتى الآن!
تطلب وزارة المالية الروسية تخفيض موازنة وزارة الدفاع بنسبة خمسة بالمائة، ضمن سياسة حكومية عامة في تخفيض النفقات، في وقت تعاني فيه موسكو من العقوبات الغربية. بينما تدور النفقات والكلفة المالية للتدخل العسكري، ولوجود أربعة آلاف جندي روسي في سورية حول عشرة ملايين دولار يومياً على الأقل.. وهو إنفاق مهول لدولةٍ لا تعيش بحبوحة مالية، كالصين أو اليابان .فضلاً عن موجة ريبة وتحفظ شديديْن، تشمل الإقليم من الوجود الروسي الذي زاد في تعقيد الأزمة، وفي مفاقمة محنة المدنيين السوريين. وليست الزيارات الخليجية إلى موسكو سوى محاولة لتهدئة الجموح الروسي، ولفت انتباه الكرملين إلى أن هناك، عدا حاكم دمشق، أصدقاء لروسيا في المنطقة مُفترضون وفعليون، ينبغي إيلاؤهم كل اعتبار. أما تركيا التي يناصبها الكرملين العداء، فتراهن على أنه ليس أمام موسكو سوى المساعدة على إنجاز حل سياسي، والتوقف عن النشاط العسكري، والكف عن الدعم الأعمى لنظامٍ لا يمتلك الشرعية، أو القابلية للبقاء، وهو ما عبّر عنه نائب رئيس الوزراء، نعمان قورتولموش، قبل أيام.
العربي الجديد