غازي دحمان – كاتب سوري
يشكل التوافق الروسي – الأميركي على إعادة صياغة مقاربات الأزمة السورية، ميدانياً وديبلوماسياً، دينامية تغيرية تمس عمق مكونات الأزمة الداخلية وترابطاتها الإقليمية والدولية، في محاولة تهدف إلى تغيير مفاعيلها وتأثيراتها، وتستند عدة هذه الصياغة الجديدة على تصورات نظرية وافتراضية في مجملها، من دون مراعاة ثقل وأوزان العناصر التي تشكّل المحركات والحوافز الأساسية للأزمة، والتي أنتجت الديناميات التي تكفّلت باستمرارية اشتغالها على مدار السنوات السابقة وتنذر باستمرارها في الزمن المقبل. تشتمل المقاربة المستجدة، روسياً وأميركياً، على إجراء تحويلات قسرية وسطحية على شكل الصراع وجوهره، تشمل تغيير ديناميات اشتغاله، الظاهرة، أو ما يعتقد الطرفان بأنها بالفعل دينامياته الحقيقية، عبر تقييم نظري يقوم على قراءة الأزمة من زاوية محددة ومن ثم تخريج الوسائل المناسبة لإدارتها والتي تتطابق حتماً مع ذلك التقييم، وتتمثل خلاصات هذا التقييم بالآتي:
– اعتبار الأزمة مشكلة إقليمية بين دول تتصارع على النفوذ وتغذّي أطراف الأزمة، وبالتالي استند تفاهم فيينا، الذي بني عليه قرار مجلس الأمن رقم 2245 على هذا الأساس، عبر محاولة إيجاد توازنات معينة بين هذه الأطراف وأدوارها السياسية والعسكرية، في حين أن واقع المشكلة لم يكن دائماً كذلك، والبعد الإقليمي هو بعد، على رغم تأثيره، يظل طارئاً وبرانياً في كل الأحوال، ولا يلغي جذور الأزمة وأساساتها الداخلية.
– اعتبار الأزمة مشكلة بين نظام ومعارضة، وبالتالي يمكن حلها عبر إعادة توزيع الحصص ضمن إطار النظام نفسه، أو من خلال تعديلات هيكيلية على تركيبة النظام، مع إدخال تغييرات مستقبلية تتعلق بآليات الحكم وصنعة القرار، ولا يتعدى سقف التجربتين العراقية واللبنانية في أفضل الأحوال، وفي ذلك تفريغ للأزمة من بعدها الثوري، وإلغاء كل ما ترتب عنها من ارتكابات وجرائم وإمكانية فتح ملفاتها في المستقبل.
يمكن تعريف هذا الشكل التسووي على أنه نمط من التسوية الفوقية عبر صناعة شبكة ترابطات وقنوات تواصل بين الأطراف الظاهرية للأزمة ودمجها في الحل المنتظر، وهذا نمط ينطوي على إغراء إمكانية حصوله من خلال آليات الضغط التي يمكن ممارستها من قبل روسيا وأميركا على الأطراف التي تشكل واجهة الأزمة وباستخدام المساومات لتشكيل خريطة التوازنات بين هذه الأطراف، ويناسب هذا النمط جميع الأطراف التي تبحث عن حلول سريعة، مثل إدارة الرئيس أوباما التي تعتقد بأنها بتنازلاتها لروسيا تشتري حلاً رخيص الثمن يناسب المقاس الزمني لعمر الإدارة، ويناسب أيضاً الكرملين الباحث عن أي شكل من أشكال النصر لتوظيفه داخلياً في مواجهة جملة من الأزمات المركبة التي بدأت تنتصب في وجه بوتين، كما يناسب إيران وأذرعها في المنطقة كونه يبقي الوضع على ما هو عليه وينطوي على إمكانية تغييره لمصلحتهم في المستقبل. لكن، كل ذلك لن يؤدي إلى حل مستدام وطويل الأمد في سورية، بل سيتحول إلى محرك جديد للأزمة وسيوفر الفرص الملائمة لها لإجراء التعديلات المناسبة في نمط اشتغالها وطبيعة تشابكاتها المحلية والإقليمية، ذلك أن أول تحول سيتمظهر في انفكاك الميدان السوري والجماعات الفاعلة فيه عن داعميه الإقليميين، صحيح أن الخارج يشكل شريان تغذية مهم وبخاصة على مستويات التمويل والتسليح، لكن ذلك لا ينفي حقيقة وجود نظام تغذية متكامل يشكّل الخارج جزءاً منه ولا يشكّله كلّه، وثمة شبكة تغذية داخلية رديفة تقوم على الغنائم وشراء الأسلحة من تجار داخليين ومن الميليشيات والتشكيلات العسكرية المنضوية في إطار جبهة الأسد، كما أن مصادر التمويل يمكن استبدالها بمصادر بعيدة عن سيطرة الحكومات الإقليمية، وبالتالي فإن الثمرة الوحيدة لهذا الانفكاك ستتمثل بخروج تلك الجماعات عن إمكانية السيطرة وصعوبة إخضاعها للتفاوض في أي حل مستقبلي. وهذا التطور، في حال الإصرار على الدفع لإظهاره، سينتج منه تطور موازٍ يتمثل بمنح شرعية للتقسيم الذي يميز بين سورية المفيدة وخارجها، على أساس الأمر الواقع حيث تصبح هذه إطاراً للسلطة المقبولة دولياً والمكوّنات القابلة بالتعايش تحت قوانينها وأنظمتها، كما سيعطي عمليات التطهير الديموغرافي زخماً أكبر طالما توفرت سورية المقابلة لسورية المفيدة وطالما أصبحت هذه الأخيرة تشكل مصلحة دولية للاستقرار وخلاصة التوافق الإقليمي والدولي، بالتزامن مع إطفاء كل الأضواء المسلّطة على الأزمة السورية.
لا يحتاج الوصول إلى هذه السيناريوات وقتاً طويلاً، مجرد الاستمرار في إدارة الأزمة وفق المقاربات الجديدة كفيل بإطلاق الديناميات اللازمة لهذا الفعل وتدعيم أدواته التشغيلية، وطالما ازداد فريق الباحثين عن نصر سريع في سورية، لكن الأزمة الحقيقية ستجد البدائل المناسبة للتعبير عن نفسها دائماً وستعاند كل محاولات التلفيق وتسريع الإنضاج على نار التوافق الروسي – الأميركي.
الحياة